تشير العديد من التقارير والدراسات الدوليّة، ومن بينها تقرير “مستقبل الوظائف لعام 2025: بخصوص الوظائف الأسرع نموًّا والأكثر تراجعًا بحلول عام 2030” الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum)، إلى أنّ سوق العمل العالمي يشهد تحوّلًا جذريًّا نحو الوظائف المرتبطة بالتكنولوجيا والابتكار، بسبب تراجع الأدوار التقليديّة التي يمكن أتمتتها أو دمجها في نُظُم رقميّة أكثر تطوّرًا.

وفي الأردن، يتزايد الوعي بأهميّة هذا التحوّل، خصوصًا مع إطلاق المجلس الوطني لتكنولوجيا المستقبل الذي سيلعب دورًا محوريًّا في توجيه الجهود الوطنيّة لدعم الابتكار الرقمي وتعزيز القدرات التكنولوجيّة.

لضمان أن يكون الأردن في طليعة دول المنطقة، لا بدّ من تعاون، وتضافر ثلاث جهات رئيسيّة: القطاع العام، والقطاع الخاص، وقطاع التعليم بما في ذلك المدارس والجامعات، حيث يتطلب في مقدّمة ذلك من الحكومة وضع سياسات وتشريعات مرنة تُمهّد الطريق أمام الشركات الناشئة والمستثمرين، سواءً محليون أو من خارج المملكة، وتؤمّن بنية تحتيّة رقميّة متينة تعزّز كفاءة الخدمات الذكيّة، وتُساعد على استقطاب الاستثمارات، كما ينبغي تقديم حوافز واضحة ومستقرّة تُشجّع التوجّه نحو التقنيات الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابيّة وإنترنت الأشياء.

إلى جانب ما سبق، يبرز مفهوم السيادة الرقميّة كهدف أساسي لضمان قدرة الدولة على حماية بياناتها ومواطنيها، والتحكّم في البنى التحتيّة الرقميّة بحرّيّة واستقلاليّة، وتتجلّى أهميّة ذلك في الحفاظ على الخصوصيّة، ودعم الابتكار المحلي المبني على المصدر المفتوح. كما تمثّل السيادة الرقميّة رافعة حيويّة للاقتصاد الوطني في مواجهة التحدّيات العالميّة المتسارعة في مجال التقنية.

وتتطلّب السيادة الرقميّة وضع أُطر تشريعيّة وتنظيميّة واضحة لتخزين البيانات محليًّا، وتشجيع تطوير مراكز بيانات متقدّمة، بالإضافة إلى عقد شراكات دوليّة واستقطاب الخبرات التي تتيح للأردن بناء قدرات وطنيّة في مجال البنية التحتيّة الرقميّة المتقدّمة، كما ينبغي دعم برامج توعية شاملة حول الأمان الرقمي وقوانين حماية البيانات على المستوى المؤسّسي والفردي.

كما يحتاج القطاع الخاص إلى توسيع نطاق استثماراته في الأبحاث والتطوير، وتبنّي نهج التعلّم المستمر لموظّفيه، مع إتاحة الفرصة للشركات الصغيرة والمتوسّطة للمشاركة في مشاريع تكنولوجيّة وطنيّة أو إقليميّة، أما الشركات الكبرى فعليها دعم جهود الابتكار وتمويل الأفكار الواعدة عبر برامج مسرّعات الأعمال وحاضنات المشاريع في كافة محافظات المملكة، بما يضمن خلق نظام بيئي محفّز للإبداع وتعزيز الأمن الرقمي.

من جهته، يضطلع قطاع التعليم بمسؤوليّة كبيرة لتجسير الفجوة بين المناهج الدراسيّة واحتياجات سوق العمل الرقمي، فالمدارس والجامعات والكليّات مطالبة بتحديث خططها الدراسيّة لتتضمّن المهارات الرقميّة التطبيقيّة ضمن جميع التخصصات الأكاديمية، وليس فقط في المجالات التقنية، لضمان تكامل التكنولوجيا في مختلف القطاعات.

ختاماً، لقد أثبت الأردن قدرته على التميّز في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات، سواءً من خلال شركاته الرائدة أو كفاءاته البشريّة المتميّزة، وفي ضوء تأسيس المجلس الوطني لتكنولوجيا المستقبل، بات من الضروري تصميم خارطة طريق واضحة المعالم تضمن تكامل الأدوار بين القطاعات الثلاثة، وتدعم مساعي تحقيق السيادة الرقميّة، وهذا التعاون كفيلٌ بأن يجعل الأردن ليس مواكبًا للتطوّرات التكنولوجيّة العالميّة فقط، بل سبّاقًا فيها، بما يعزّز دوره كمحور أساسي في مسيرة تعزيز التحوّل الرقمي الإقليمي، ويوفّر الأسس المتينة لبناء اقتصاد رقمي حديث وآمن ومستدام.

*الرئيس التنفيذي لجمعية شركات تقنية المعلومات والاتصالات – إنتاج