في خضم التحولات التكنولوجية المتسارعة، يبرز الابتكار كعامل رئيسي يُحدِّد مسار تقدم الدول، ليس فقط عبر تعزيز الاقتصاد، بل بخلق مجتمعات قادرة على مواكبة التعقيدات العالمية.
وتكشف تجارب الدول الرائدة أن الابتكار ليس نتاج الصدفة، بل ثمرة استثمار استراتيجي في العنصر البشري والبنى التحتية الذكية والتعاون الوثيق بين القطاعات المختلفة، لعل أبرزها القطاع الأكاديمي الذي يلعب دوراً محورياً في توليد المعرفة وتوجيهها نحو حلول واقعية.
وتتفوق الدول التي تحتل مراتب متقدمة في مؤشرات الابتكار العالمية بفضل تركيزها على عدة ركائز، منها الاستثمار الطموح في البحث العلمي والتطوير، وبناء أنظمة تعليمية تركز على الإبداع بدلاً من التلقين والحفظ، وتوفير بنية تحتية رقمية متطورة. كما تتميز هذه الدول بوجود تعاون عضوي بين الجامعات والقطاع الخاص، حيث تتحول الأبحاث الأكاديمية إلى مشاريع تجارية تسهم في الناتج المحلي, إضافة إلى ذلك، تُعد البيئة التشريعية الداعمة لريادة الأعمال، وحماية الملكية الفكرية، عاملاً جاذباً للعقول والاستثمارات.
وتقدم الدول المبتكرة نماذج ملهمة عن كيفية دمج القطاع الأكاديمي في منظومة الابتكار, ففي سويسرا، تُعتبر الجامعات مثل “ETH Zurich” حجر الأساس للاقتصاد القائم على المعرفة، حيث يتم تحويل أكثر من 70% من الأبحاث إلى منتجات عبر شراكات مع شركات كبرى مثل “Roche” و “Novartis”.
أما في كوريا الجنوبية، فتعمل الحكومة على تمويل مراكز الأبحاث الجامعية في مجال الذكاء الاصطناعي، مما جعلها تحتل الصدارة في تسجيل براءات الاختراع سنوياً، ولا ننسى تجربة سنغافورة التي حوَّلت جامعاتها إلى حاضنات للشركات الناشئة عبر توفير مبانٍ متخصصة داخل الحرم الجامعي حيث يلتقي الطلاب بالمستثمرين وخبراء الصناعة.
إن الأردن يمتلك مقومات تؤهله ليكون مركزاً إقليمياً للابتكار، بدءاً من الكوادر الشبابية الطموحة، ومروراً بوجود جامعات مرموقة، والتي يمكن أن تكون نواة لإطلاق مشاريع بحثية تطبيقية، لكن تحقيق هذه الرؤية يتطلب تفعيل دور القطاع الأكاديمي بشكل استراتيجي، عبر ربط مناهج التعليم بالتحديات الصناعية والاجتماعية، وتمويل الأبحاث المشتركة بين الجامعات والشركات الخاصة.
فعلى سبيل المثال، يمكن إنشاء “مختبرات وطنية” داخل الجامعات، بالشراكة مع قطاعات مثل التعدين، أوالطاقة المتجددة، أو الزراعة، أو الصيدلة نحو التحول إلى اقتصاد رقمي حقيقي يساهم في تحسين حياة المواطنين ويدر مزيدا من الأرباح على القطاع الخاص ويوفر دخلا إضافيا للجامعات لتتمكن من تحسين جودة مرافقها واستقطاب كوادر متميزة سواء من الأردن أو من الخارج. كما أن تطوير برامج تدريبية مشتركة بين الجامعات والقطاع الخاص سيسهم في سد الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق.
ومن الضروري أيضاً تعزيز دور الجامعات في احتضان الشركات الناشئة من خلال توفير مساحات عمل مشتركة وتمويل مبدئي، على غرار نموذج “MIT Innovation Hub” في الولايات المتحدة.
ولا يمكن إغفال أهمية البنية التحتية الرقمية التي يجب أن تشمل تطوير شبكات اتصال فائقة السرعة في المناطق الجامعية، مما يتيح للطلاب والباحثين الوصول إلى الموارد العالمية بسلاسة.
وفي الجانب التشريعي، يحتاج الأردن إلى قوانين مرنة تشجع التعاون بين الجامعات والصناعة، مع تبسيط إجراءات تسجيل الملكية الفكرية للأبحاث الجامعية.
ختاماً، الابتكار ليس ترفاً، بل ضرورة لضمان بقاء الدول في سباق التقدم، ولتحقيق ذلك، يجب أن تتحالف جهود الحكومة والقطاع الخاص والجامعات في الأردن لرسم خريطة ابتكار ذكية تُواكب التحديات الحالية والمستقبلية، حيث تخرج الأفكار من قاعات المحاضرات إلى الأسواق، وتُترجم الأبحاث إلى حلول ملموسة.
فبهذه الرؤية، يمكن للأردن أن يرسخ مكانته كوجهة للمبتكرين، وقصة نجاح عربية في عالم تسوده المنافسة المعرفية.
*الرئيس التنفيذي في جمعية شركات تقنية المعلومات في الأردن – انتاج