لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة لأتمتة المهام الروتينية، بل أصبح قوة محركة تعيد تشكيل المشهد المهني بالكامل، وتخلق نظاما وظيفيا جديدا بمفاهيم وأدوار غير مسبوقة. ووفقا لتقرير حديث صادر عن مؤسسة “جارتنر”، يمكن تصنيف الوظائف المرتبطة بالذكاء الاصطناعي إلى ثلاث فئات رئيسية: وظائف حالية، ووظائف ناشئة، ووظائف محورية لا غنى عنها. إن فهم هذه الفئات بات ضروريا للمؤسسات الأكاديمية والطلاب وواضعي السياسات لإعادة هيكلة الأنظمة التعليمية بما يتماشى مع متطلبات سوق العمل المستقبلي.

الوظائف الحالية في مجال الذكاء الاصطناعي تعد حجر الأساس لأي نظام ذكاء اصطناعي فعال. وتشمل هذه الوظائف مهنا مثل: مهندس البيانات، الذي يتولى جمع وتنظيف وربط كميات ضخمة من البيانات لتغذية النماذج الذكية؛ وعالم البيانات، الذي يقوم ببناء نماذج تنبؤية واستخلاص الرؤى من البيانات الخام؛ ومطور الذكاء الاصطناعي، المسؤول عن إنشاء الأنظمة والتطبيقات الذكية؛ ومصمم تجربة المستخدم (UX)، الذي يضمن أن تكون واجهات الذكاء الاصطناعي سهلة التفاعل وسلسة الاستخدام. هذه الوظائف تمثل البوابة الأساسية لدخول مجال الذكاء الاصطناعي، وتتطلب خلفية قوية في البرمجة، والإحصاء، وهندسة الأنظمة.

ومع نضج تقنيات الذكاء الاصطناعي، بدأت تظهر وظائف جديدة تمزج بين المعرفة التقنية والخبرة القطاعية. مثلا، مهندس اتخاذ القرار يحول مخرجات الذكاء الاصطناعي إلى استراتيجيات عملية قابلة للتنفيذ، بينما يقوم مهندس المعرفة ببناء هياكل معرفية تساعد الذكاء الاصطناعي على الفهم والتفسير. أما مدقق النماذج، فيعد خط الدفاع الأخير الذي يتحقق من دقة وسلامة النماذج قبل تطبيقها في بيئات الإنتاج. وهذه الوظائف تمثل روح العصر، وتتطلب مزيجا من المهارات التقنية والاحترافية في مجالات متخصصة كالصحة، التمويل والقانون.

أما الوظائف المحورية، فهي الأدوار التي لا يمكن لأي منظمة تطمح للريادة في الذكاء الاصطناعي أن تستغني عنها. يشغل رئيس قسم الذكاء الاصطناعي موقع القائد الذي يضع الرؤية العامة ويوائم بين القدرات التقنية والأهداف الاستراتيجية. بينما يتولى مهندس المحفزات (Prompt Engineer) تصميم مدخلات فعالة توجه أدوات الذكاء التوليدي، مثل ChatGPT، لإنتاج استجابات عالية الجودة. أما اختصاصي أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، فهو الحارس الذي يضمن احترام الخصوصية والعدالة والمساءلة في كل مرحلة من مراحل تطوير الأنظمة الذكية.
والنجاح في عالم الذكاء الاصطناعي لا يأتي من العمل الفردي، بل من التعاون متعدد التخصصات. في دورة حياة الذكاء الاصطناعي، تبدأ العملية بتحديد المشكلة من قبل خبراء الأعمال، يليها تجهيز البيانات من قبل مهندسي البيانات، ثم تطوير النماذج بواسطة العلماء والمطورين، وأخيرا تطبيقها بمشاركة مدققي النماذج وخبراء الأخلاقيات. في هذه المناطق المتقاطعة بين التقنية، التحليل والاستراتيجية، تحدث الإنجازات الحقيقية.
وفي مواجهة هذا التحول، لا بد أن تواكب مؤسسات التعليم الأردنية هذا الواقع الجديد. ويبدأ ذلك بإعادة تصميم المناهج الجامعية لتشمل الذكاء الاصطناعي، الأخلاقيات والأمن السيبراني، إلى جانب مشاريع تطبيقية باستخدام أدوات ذكاء اصطناعي حقيقية. كما يجب عقد شراكات مع شركات التكنولوجيا لتوفير معسكرات تدريبية وفرص تدريب عملي تغلق فجوة المهارات. ويمكن تسريع وتيرة التعلم من خلال إتاحة الوصول إلى منصات عالمية مثل Coursera وedX في تخصصات مثل تعلم الآلة، ومعالجة اللغة الطبيعية، وحوكمة الذكاء الاصطناعي.
وفي الوقت ذاته، يجب تسليط الضوء على المهارات البشرية الجوهرية -مثل التواصل، القيادة والتفكير النقدي- وهي مهارات لا يمكن للذكاء الاصطناعي تقليدها. ومن خلال تشجيع المشاريع الجماعية، يمكن تعزيز مهارات العمل التعاوني والإبداعي، ما يحاكي بيئات العمل الواقعية.
ويعد دعم الابتكار وريادة الأعمال من الركائز الأساسية للمرحلة المقبلة. فإطلاق حاضنات أعمال متخصصة في الذكاء الاصطناعي، وتوفير تمويل أولي لمشاريع يقودها الطلاب، يمكن أن يؤديا إلى حلول محلية فعالة لقضايا وطنية، مثل استخدام الذكاء الاصطناعي للتشخيص المبكر في الرعاية الصحية، أو إدارة المياه بذكاء. كذلك، على الجامعات أن تُعد الطلبة للتعامل مع عمليات التوظيف المدعومة بالذكاء الاصطناعي، حيث تعتمد شركات كبرى، مثل IBM وOracle، على أدوات ذكاء اصطناعي لفرز السير الذاتية وتقييم المهارات وإجراء المقابلات.
وهناك تجارب عالمية يمكن أن تلهمنا، مثل نموذج إستونيا، التي قامت بدمج المهارات الرقمية في كل مراحل التعليم، مما أنتج قوة عاملة مواكبة للمستقبل وجذبت استثمارات عالمية. ويمكن للأردن تبني هذا النهج وتكييفه بما يتناسب مع أولوياته واستثمار طاقاته الشابة الطموحة.
في الختام، إن الذكاء الاصطناعي لا يلغي الوظائف، بل يعيد ابتكارها. وللجيل الصاعد من المتخصصين في تكنولوجيا المعلومات في الأردن، فإن هذا التحول ليس تهديدا، بل فرصة للقيادة والتفوق. ومن خلال دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم، وتحفيز روح الابتكار، وتعزيز التعاون بين المؤسسات التعليمية والصناعية، يمكننا أن نطلق العنان لجيل جديد قادر على صياغة مستقبل الأردن الرقمي. لكن هذه المهمة لا تحتمل التأجيل. فإيقاع الذكاء الاصطناعي لا ينتظر أحدا.
الوقت الآن هو وقت العمل -لتحديث الجامعات، وتعميق الشراكات الصناعية، وتحفيز الطلاب على النهوض بالمسؤولية. فهل أنتم مستعدون لقيادة هذا التغيير؟

المصدر الغد