في ظل التطورات المتسارعة في التكنولوجيا المالية، برزت الأصول الرقمية كأداة مالية ذات تأثير عالمي، مما دفع الحكومات إلى تبني أطر تنظيمية واضحة لضبط التعامل بها. وجاء قرار مجلس الوزراء الأردني بوضع إطار قانوني شامل لحوكمة الأصول الرقمية ليعكس الحاجة إلى التكيف مع هذا الواقع الجديد، مع مراعاة الاستقرار المالي وحماية المستثمرين.
فالأصول الرقمية هي أي أصول يتم تمثيلها إلكترونيًا باستخدام تقنيات التشفير والسجلات الموزعة (مثل تقنية البلوكشين). وتشمل هذه الأصول عدة أنواع رئيسية، أبرزها واكثرها انتشارا العملات المشفرة (Cryptocurrencies): مثل البيتكوين (Bitcoin) والإيثيريوم (Ethereum)، وهي عملات رقمية لا مركزية تعمل بتقنية البلوكشين، وتستخدم غالبًا كوسيلة للتبادل أو مخزن للقيمة.
كما ان العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs): هي من العملات الرقمية وتصدرها البنوك المركزية، مثل “اليوان الرقمي” في الصين، وتعتبر بديلاً رقمياً للعملات الورقية التقليدية ولكنها ليس هي المقصودة بالتنظيم في هذا الاطار.
وثاني انواع الاصول الرقمية هي الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs): وهي أصول رقمية تمثل ملكية فريدة لمحتوى رقمي مثل الأعمال الفنية أو العقارات الافتراضية.
وثالث هذه الاصول الرقمية هي الأصول المرمّزة (Tokenized Assets): تمثل ملكية جزئية أو كاملة لأصول حقيقية مثل العقارات أو الأسهم، وتتيح التداول الرقمي لها.
ويعد التنظيم القانوني والتشريعي للأصول الرقمية أمرًا ضروريًا لتحقيق عدة أهداف رئيسية، منها حماية المستثمرين فمن خلال التنظيم يتم وضع معايير لحماية المستخدمين من الاحتيال والتلاعب في الأسواق الرقمية. وكلك يساعد التنظيم على منع الجرائم المالية مثل غسل الأموال وتمويل الإرهاب، من خلال فرض التزامات على منصات التداول والمستخدمين للتحقق من الهوية (KYC) والإبلاغ عن العمليات المشبوهة.
كما تضمن استقرار الأسواق المالية فمن خلال هذه التشريعات يتم ضمان منع المضاربات العشوائية التي قد تؤثر على استقرار النظام المالي المحلي. وتعزيز الابتكار المالي فالتنظيم يوفير بيئة تنظيمية واضحة تدعم الشركات الناشئة والتكنولوجيا المالية.
وأصبحت العديد من الدول تدرك الحاجة إلى تنظيم الأصول الرقمية لضمان حماية المستثمرين ومنع الجرائم المالية وتشجيع الابتكار في القطاع المالي. وتتمثل أبرز النماذج الناجحة في هذا المجالاولا الولايات المتحدة الأمريكية حيث تعتمد نهجًا متعدد الجهات التنظيمية، حيث تتولى هيئة الأوراق المالية والبورصات (SEC) مراقبة الأصول الرقمية التي تُعتبر أوراقًا مالية، بينما تشرف هيئة تداول السلع الآجلة (CFTC) على تلك التداولات التي تُعتبر سلعًا مثل البيتكوين. وتفرض الحكومة متطلبات صارمة لمكافحة غسل الأموال (AML) وتمويل الإرهاب (CFT)، مما يستلزم تسجيل منصات التداول لدى شبكة مكافحة الجرائم المالية (FinCEN) والتزامها بإجراءات “اعرف عميلك” (KYC). وتعمل وزارة الخزانة الأمريكية على فرض ضرائب على أرباح تداول الأصول الرقمية لضمان مساهمتها في الاقتصاد الرسمي.
واما الاتحاد الأوروبي MiCA Regulation – الأسواق في الأصول الرقمية فلقد أقر الاتحاد الأوروبي في عام 2023 لائحة “MiCA” الأسواق في الأصول الرقمية التي تهدف إلى وضع إطار قانوني موحد لجميع الدول الأعضاء. وتُلزم هذه اللائحة جميع الجهات التي تقدم خدمات الأصول الرقمية بالتسجيل لدى السلطات المالية الوطنية والامتثال لمعايير صارمة تتعلق بحماية المستثمرين والشفافية المالية. وتفرض اللائحة قيودًا على إصدار العملات المستقرة (Stablecoins) لضمان استقرارها وربطها باحتياطات نقدية كافية.
واما الإمارات العربية المتحدة فلقد تبنت نهجًا تنظيميًا متقدمًا من خلال إنشاء “سلطة تنظيم الأصول الافتراضية” (VARA) في دبي، التي تضع معايير ترخيص للشركات العاملة في القطاع الرقمي. وتقدم مناطق اقتصادية مثل “مركز دبي المالي العالمي” و”أبوظبي جلوبال ماركت” لوائح تنظيمية متكاملة تستقطب شركات الأصول الرقمية العالمية. ويفرض البنك المركزي الإماراتي رقابة صارمة على عمليات تحويل العملات الرقمية إلى النظام المصرفي التقليدي.
واما سنغافورة فتُصنف كواحدة من الدول الأكثر تقدمًا في تنظيم الأصول الرقمية من خلال سلطة النقد في سنغافورة (MAS)، التي أصدرت قانون خدمات الدفع لعام 2019. وتفرض السلطات معايير ترخيص صارمة لمقدمي خدمات الأصول الرقمية، مع متطلبات أمنية مشددة لمنع الجرائم الإلكترونية. وتسعى الدولة إلى تحقيق توازن بين تشجيع الابتكار وضمان الامتثال للقوانين المالية الدولية.
وتعتبر سويسرا من الدول الرائدة في تبني تقنية البلوكشين، حيث أنشأت بيئة تنظيمية مرنة ضمن ما يُعرف بـ “وادي التشفير ” (Crypto Valley) وتُخضع الأصول الرقمية لمتطلبات الامتثال نفسها المفروضة على القطاع المصرفي التقليدي لضمان الشفافية والاستقرار. وتقدم الحكومة السويسرية تصنيفات واضحة للأصول الرقمية بناءً على وظائفها (مثل العملات المشفرة، الرموز المرمّزة، والعملات المستقرة).
الا ان لاجازة تبادل الأصول الرقمية هذه الاصول تأثير على السياسة النقدية فقد تؤدي الأصول الرقمية إلى تحديات كبيرة أمام السياسة النقدية للدول، لا سيما في الدول التي لا تزال تعتمد على سياسات نقدية تقليدية للتحكم في العرض النقدي والتضخم. وتشمل هذه التأثيرات ضعف قدرة البنك المركزي على التحكم في الكتلة النقدية فعندما يبدأ الأفراد والشركات في استخدام العملات الرقمية بشكل موسع، فإن البنك المركزي يفقد جزءًا من قدرته على إدارة السيولة في السوق. وإذا أصبحت العملات المشفرة بديلاً شائعًا للعمله المحليه، فقد يحد ذلك من فعالية أدوات السياسة النقدية مثل سعر الفائدة والاحتياطي النقدي الإلزامي.
كذلك فان اجازة هذه الاصول قد يؤدي الى تزايد مخاطر “الدولرة الرقمية” فكما تؤدي الدولرة (Dollarization) إلى استبدال العملات الوطنية بالدولار الأمريكي، فإن “الدولرة الرقمية” تعني استبدال العملات المحلية بالعملات الرقمية العالمية مثل البيتكوين أو العملات المستقرة المرتبطة بالدولار. وقد يؤدي هذا إلى تقليل الطلب على العمله الوطنية، مما يضعف استقرار سعر صرفه أمام العملات الأجنبية.
كذلك فأن تنظيم هذه الاصول قد يقود الى تذبذب الطلب على العملة الوطنية فإذا أُتيح تداول الأصول الرقمية على نطاق واسع، فقد يتسبب ذلك في تحويل المدخرات من النظام المصرفي التقليدي إلى محافظ رقمية غير خاضعة للرقابة، مما يؤثر على توفر السيولة في الاقتصاد المحلي.
ولاتساع تداول الأصول الرقمية تأثير على قيمة العمله الوطنية فزيادة الطلب على العملات الرقمية مقابلها ففي حال زيادة نطاق استخدام العملات المشفرة قد يسبب تراجع الطلب على العمله الوطنية، مما يؤدي إلى انخفاض قيمتها أمام العملات الأجنبية. كما ان تزايد استخدام العملات الرقمية في التحويلات المالية سيؤثر على احتياطي العملات الأجنبية في البنك المركزي.
ولها مخاطر في التسبب بالمضاربات المالية فنظرًا لأن العملات المشفرة شديدة التقلب، فقد تؤدي عمليات تداول واسعة إلى اضطراب في الأسواق المالية المحلية. وفي حال وجود حركة ضخمة لتحويل العمله الوطنية إلى عملات مشفرة، قد يؤدي ذلك إلى تقلبات في سعر الصرف.
وهناك إمكانية استخدام الأصول الرقمية للتحايل على القيود النقدية فيمكن للأصول الرقمية أن تُستخدم لنقل الأموال عبر الحدود دون المرور عبر النظام المصرفي الرسمي، مما يُصعب على البنك المركزي مراقبة تدفقات رأس المال.
ولضمان أن يكون تنظيم الأصول الرقمية في الأردن متوافقًا مع الاستقرار النقدي والمالي، فلابد من تطبيق الاستراتيجيات من اهمها اولا إطلاق الدينار الرقمي (CBDC): فإصدار عملة رقمية وطنية تحت إشراف البنك المركزي سيؤدي الى تعزيز السيطرة على السياسة النقدية وتقليل اعتماد المواطنين على العملات الرقمية غير المنظمة. كما لابد ثانيا من وضع قيود على تحويل العملات الرقمية من خلال فرض حدود على حجم التحويلات بالعملات الرقمية إلى الدينار الأردني لمنع هروب رأس المال وتقلبات سعر الصرف.
ومن الاهمية بمكان تنظيم منصات التداول الرقمية وذلك من خلال إصدار تراخيص لمنصات التداول الرقمية مع فرض متطلبات امتثال مالي وأمني صارمة. وإلزام منصات التداول بالإبلاغ عن العمليات الكبيرة والمشبوهة للبنك المركزي وهيئة مكافحة غسل الأموال.
كما من الواجب فرض الضرائب على تداول الأصول الرقمية وذلك من خلال تبني سياسة ضريبية تفرض رسومًا على أرباح تداول العملات الرقمية لدمجها في الاقتصاد الرسمي. ومن المهم توعية المواطنين بمخاطر العملات الرقمية وذلك من تنفيذ حملات توعية حول مخاطر المضاربة في الأصول الرقمية وكيفية التعامل معها بشكل آمن.
ولضمان نجاح هذه المبادرة، يُوصى باتباع الإجراءات التالية اولاها إصدار تشريع خاص بالأصول الرقمية يحدد القواعد التنظيمية لمنصات التداول وآليات الامتثال. وهو ما تعمل علية الحكومه الاردنية حاليا كما لابد من انشاء او تحديد هيئة رقابية متخصصة للإشراف على الأصول الرقمية وضمان الامتثال للقوانين المالية. ومن الضروري توعية المستثمرين حول مخاطر وفوائد الأصول الرقمية من خلال حملات تثقيفية.
ولا بد من التعاون الدولي مع الهيئات المالية العالمية لتبادل الخبرات وتعزيز الرقابة على تدفقات رأس المال.
يمثل تنظيم الأصول الرقمية في الأردن فرصة لتعزيز الابتكار المالي، ولكن مع ضرورة تبني نهج متوازن يحمي الاستقرار الاقتصادي ويحافظ على قيمة الدينار الأردني فهي خطوة حاسمة نحو التكيف مع الابتكارات المالية الحديثة، لكنه يتطلب نهجًا دقيقًا لضمان عدم الإضرار بالاقتصاد الوطني.
بقلم / د. حمزة العكاليك
المصدر عمون