باتت السيطرة الغربية على العالم الرقمي بكل مجرياته أمرا جليا للعيان، ما يستدعي التنبه والعمل بجد لبناء سيادة رقمية من كل الجوانب محليا وعربيا.
خبراء في العالم الرقمي وصفوا هذه السيطرة بـ”المفرطة” حيث تتركز في أيدي عدد قليل من الشركات التقنية الغربية الكبرى ما يشكل مصدر قلق للعاملين في القطاع وأصحاب القرار والمستخدمين.
وأشار الخبراء لـ”الغد” إلى مظاهر واضحة المعالم لسيطرة الشركات التقنية الغربية ومعظمها أميركية على العالم الرقمي بالتعدي وانتهاك حرية التعبير للعرب والفلسطينيين عبر منصات التواصل الاجتماعي التي انحازت بشكل سافر للرواية الإسرائيلية، فضلا عما يظهر من تأثيرات سلبية تعطل حياة الناس واقتصاداتهم في حالة تعرض هذه المنصات إلى أعطال واسعة النطاق، إلى جانب تفردها بإدارة البيانات الضخمة التي أصبحت تعد اليوم نفط العصر الحالي.
وقال الخبراء إن هناك نماذج قليلة منها الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي تمكنت من كسر الهيمنة الأميركية على العالم الرقمي، بإنشاء منصات خاصة بها، أو وضع قوانين ومحددات لعمل هذه المنصات الغربية في هذه الدول وسن تشريعات لحماية البيانات وإستراتيجيات قوية للأمن السيبراني، داعين إلى جهد عربي مشترك لبناء إستراتيجية عربية موحدة نحو سيادة رقمية يمكن أن تفرض إيقاعا مختلفا يناسب العرب وتطلبعاتهم وتحكما بيبانات المستخدمين.
وتبرز أهمية مفهوم “السيادة الرقمية” اليوم مع توسع العالم الرقمي يوما بعد يوم، حتى بات يشكل عالما موازيا لحياتنا اليومية، مع تاثيرات اجتماعية واقتصادية وأمنية لا مفر منها، فالأرقام العالمية اليوم تتحدث قاعدة مستخدمين لشبكة الإنترنت تتجاوز 5.3 مليار إنسان، منهم حوالي الخمسة مليارت يستخدمون السوشال ميديا، وذلك من بين أكثر من 8 مليارات إنسان هم تعداد سكان الأرض.
ما هي السيادة الرقمية؟
ويعرف الرئيس التنفيذي لجمعية شركات تقنية المعلومات والاتصالات الأردنية ” إنتاج” المهندس نضال البيطار السيادة الرقمية بأنها القدرة على إدارة وسيطرة الدول على مصيرها في العالم الرقمي، شاملةً البيانات، الأجهزة، والبرمجيات التي تستخدمها وتطورها، لافتا إلى أن هذه المسألة أصبحت تثير قلق عدد كبير من المسؤولين السياسيين، الذين يلاحظون أن السيطرة تتمركز بشكل مفرط في عدد محدود من الأماكن، مما يقلل من التنوع في خيارات سوق التكنولوجيا ويمنح نفوذاً زائداً لعدد قليل من الشركات التكنولوجية الكبرىوأكد البيطار أن ثمة دروسا مستفادة من تجارب الدول مثل الصين، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، في مجال السيادة الرقمية، تؤكد أهمية الاستقلال في التكنولوجيا والبيانات لتعزيز الأمن القومي والتنافسية الاقتصادية، مشددا على الحاجة إلى إستراتيجية عربية موحدة تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المنطقة وتحدياتها الفريدة لتحقيق السيادة الرقمية.
وضرب مثلا تجربة الصين التي تركز على الابتكار وتطوير التقنيات الحديثة مثل الذكاء الصناعي وشبكات الجيل الخامس، ما يعزز استقلاليتها التكنولوجية ويقلل من الاعتماد على التقنيات الأجنبية.
وبين أن الاتحاد الأوروبي لديه إستراتيجية محددة للسيادة الرقمية تهدف إلى تعزيز استقلاله وقدرته على التحكم في البنية التحتية الرقمية، البيانات، والتكنولوجيا ضمن حدوده، حيث تشمل تلك الإستراتيجية تعزيز البنية التحتية الرقمية والأمن السيبراني، حماية البيانات والخصوصية، وتشجيع الابتكار والتقنيات المحلية، تطوير المهارات الرقمية، الحكم الرقمي والديمقراطية الرقمية، والسوق الرقمية الواحدة والتي تسعى إلى إزالة الحواجز التي تحول دون حرية تدفق البيانات والخدمات الرقمية عبر الدول الأعضاء، لتعزيز الابتكار والنمو الاقتصادي في السوق الرقمية الواحدة.
وأشار إلى تجربة روسيا التي سعت لتأمين استقلالها في الفضاء الرقمي من خلال تطوير بنية تحتية رقمية مستقلة وتعزيز أمنها السيبراني، وتركز على تطوير التكنولوجيا المحلية والاستثمار في الأمن السيبراني وتبذل مؤسساتها جهودًا متواصلة لحماية البيانات الوطنية وعدم الاعتماد على الحلول والنُظم الأجنبية.
وأكد البيطار أن على العرب اليوم مجتمعين أن يعملوا معا على إستراتيجية موحدة تعزز السيادة الرقمية وتؤمن مستقبلًا رقميًا مزدهرًا للأجيال القادمة.
وقال إن الركائز الأساسية للإستراتيجية العربية الموحدة ” لا بد أن تشمل تعزيز البنية التحتية الرقمية إذ من الضروري تطوير شبكات اتصال قوية ومستقلة تضمن الوصول الشامل للمواطنين إلى الخدمات الرقمية”، مع إشارته إلى أهمية الأمن السيبراني لحماية هذه البنية التحتية من الهجمات السيبرانية.
وأكد على أهمية وضع تشريعات عربية موحدة تضمن حماية البيانات والخصوصية عبر الدول العربية لبناء ثقة المواطنين في الخدمات الرقمية وتعزيز الاستقلالية الرقمية. وتشجيع البحث والتطوير في القطاعات التكنولوجية الناشئة واعتبار ذلك استثمارا وليس كلفة، ودعم المشاريع الرقمية المحلية تساهم بشكل كبير في تقليل الاعتماد على الحلول الأجنبية وتعزيز الاقتصاد الرقمي العربي، كما أن إطلاق برامج تعليمية وتدريبية لتطوير المهارات الرقمية للشباب العربي، مهم جدا لإعدادهم للمستقبل الرقمي وضمان مشاركتهم الفعالة في الاقتصاد الرقمي.
وبين البيطار أنه لتحقيق هذه الإستراتيجية، من الضروري توحيد الجهود بين الحكومات العربية، القطاع الخاص، المؤسسات التعليمية، والمجتمع المدني. إذ لابد أن تتبنى الدول العربية رؤية مشتركة تكاملية تضع السيادة الرقمية في صميم التخطيط الإستراتيجي، مع التأكيد على التعاون الإقليمي والاستفادة من الخبرات المشتركة
مصادر الهيمنة في العالم الرقمي
وعن مصادر هيمنة شركات قليلة على العالم الرقمي وخاصة الشركات المشرفة على منصات التواصل الاجتماعي بيّن الخبير في مجال الاتصالات والتقنية وصفي الصفدي أن أول المصادر هو تأثير هذه الشبكات وقواعد مستخدميها، حيث إنه من الطبيعي جدا أن تجذب المنصات التي تمتلك قواعد المستخدمين الكبرى، الغالبية من المستخدمين الجدد أكثر من غيرها من الشبكات الصغرى، هذا بطبيعة الحال يؤدي إلى إنشاء دورة ذاتية من تعزيز التواجد للمستخدمين على نفس الشبكة.وقال إن من مصادر الهمينة الأخرى هي البنية التحتية حيث إن التكاليف الثابتة المرتفعة لتطوير وصيانة البنية التحتية الرقمية في حالة الشركات الكبيرة تتوزع عبر قاعدة كبيرة من المستخدمين ما يخفض الكلفة للمستخدم الواحد مقارنة بصغار الشركات التي لا تستطيع المنافسة نتيجة لارتفاع الكلف للمستخدم الواحد.
وأكد الصفدي على ميزة البيانات كواحدة من مصادر الهيمنة فكلما كبرت قاعدة المستخدمين، زاد حجم البيانات ما يعطي هذه المنصات اطلاعا حول التفضيلات والسلوكيات، موضحا أن هذه البيانات تتيح تخصيص التجارب واستهداف الإعلانات وتطوير منتجات جديدة، الأمر الذي يرسخ هيمنتهم على العالم الرقمي مقارنة بالشركات الصغيرة والناشئة.
وقال إن التشريعات واللوائح التنظيمية تلعب دورا في تعزيز هيمنة عدد من الشركات الرقمية ، حيث تزداد الهيمنة لدى تواجد هذه المنصات في أسواق تعمل بموجب لوائح أقل صرامة مقارنة بالآخرين مما يشكل ثغرة تنافسية في الأسواق.
وعلى صعيد متصل أكد الصفدي أن ثمة مخاوف ترتبط بحالة الهيمنة الرقمية لعدد من الشركات على العالم الرقمي ، لعل أهمها ما يتعلق بـ (خصوصية البيانات) ، عندما تستفيد الشركات من بيانات المستخدم لأغراض تتجاوز ما يقصده المستخدمون، مما يؤدي إلى انتهاكات الخصوصية والتلاعب المحتمل.
وأشار إلى تحدٍ يرتبط بما يسمى (الاختيار المحدود) عندما يكون لدى المستخدمين خيارات محدودة للمنصات والخدمات، مما يعيق الابتكار والمنافسة.
وقال إن ثمة مخاوف ترتبط بـ(الأمن القومي) فالاعتماد على المنصات المملوكة لشركات أجنبية يمكن أن يخلق نقاط ضعف أمام النفوذ والمراقبة الأجنبية، فضلا عن مخاوف مرتبطة بـ(الاعتماد الاقتصادي) ، كونه يحد من التنمية الاقتصادية المحلية والابتكار في القطاع الرقمي المحلي.
وأكد الصفدي على أهمية الحاجة إلى السيادة الرقمية، مبينا أن هناك العديد من الخطوات التي يمكن أن تعزز السيادة العربية في العالم الرقمي مع التركيز على الحلول الأخلاقية والمستدامة.
ومن هذه الخطوات بحسب الصفدي الاستثمار في البنية التحتية المحلية من خلال تطوير الحوسبة السحابية المحلية ونقاط تبادل الإنترنت ومراكز البيانات والمنصات، لافتا إلى أنه لا بد أيضا من دعم الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا المحلية، وإنشاء آليات تمويل ومراكز حاضنات ابتكار وإعمال لتعزيز الابتكار المحلي وتشجيعهم وتقديم الدعم اللازم.
وقال إنه لا بد من العمل على تعزيز المنصات مفتوحة المصدر فتشجيع اعتماد التقنيات اللامركزية ومفتوحة المصدر التي تمنح المستخدمين المزيد من التحكم في بياناتهم، والعمل على تطوير أطر عمل شاملة لإدارة البيانات، إلى جانب تعزيز التعاون الإقليمي مع الدول المجاورة لتبادل الخبرات والموارد وتطوير معايير مشتركة.
غزة تكشف سيطرة الغرب على عالم المنصات
وفي الإطار نفسه أكد الخبير والمدرب في مجال التسويق الرقمي إبراهيم الهندي على أن الشهور الماضية منذ بداية العدوان على قطاع غزة ظهر واضحا السيطرة الرقمية التي تفرضها منصات التواصل الاجتماعي وتدخلها السافر فيما ينشر وما يتم مشاركته من قبل المستخدمين.وقال إن هذه المنصّات المملوكة لشركات غربية، قامت في حالات كثيرة بإيقاف وتعطيل الحسابات التي تخالف شروطها ومعاييرها وسياساتها، بل امتد الأمر إلى إلغاء هذه الحسابات كليا، وقد أدى ذلك إلى خسائر مالية كبيرة للأشخاص وشركات استثمرت في إعلانها على تلك الشبكات، وقامت ببناء مجتمعاتها المهنية والتجارية.
ويرى الهندي إن بدء العمل على بناء مجتمعات عربية رقمية ومنصات خاصة أمر لا بد منه، مؤكدا على أن هناك خبرة تراكمية في المجال البرمجي والتقني، وهي أمور كفيلة بأن يخلق نقلة نوعية في حال كانت هنالك إرادة لذلك.
وقال الهندي: “هنالك العديد من المبادرات التي انطلقت والمنصات التي حاولت بناء الوعي الرقمي حولها، إلا أنها لم تخلق قيمة حقيقية لدى المستخدم للاستمرار بالاشتراك والتفاعل معها”.
ولفت إلى أن هناك تجارب غنية وجديرة بمحاكاتها كما في الصين وروسيا، حيث قامت كل منهما ببناء منصات خاصة بها، استطاعت من خلالها أن تكسر تلك الهيمنة الغربية، ناهيك أنها قد تكون شكلا من أشكال السيادة الرقمية لكل منها، واستطاعت أن تقف موقف تحد، فالشبكة الاجتماعية الروسية والمنافس الأول لخدمات جوجل وفيسبوك، والذي يعد الموقع الأكثر شعبية في روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وكازاخستان، استطاع أن يخلق شعبية بين بعض المستخدمين في الدول العربية، مما يعطي مؤشرا بوجود فرصة للبدء في العمل على مشروع عربي يجمع كافة أقطار الوطن العربي في شبكة واحدة.
المصدر الغد