وسط تطورات مذهلة ومتسارعة تشهدها قطاعات التقنية والابتكار والريادة، ودخولها لخدمة كافة القطاعات الاقتصادية الحيوية، تبرز الحاجة اليوم إلى العمل بجد لتحويل شبابنا ومجتمعاتنا من مستهلكين للتقنية إلى منتجين لها، لتحويل اقتصادنا إلى اقتصاد رقمي نام وفقا لخبراء.

وقال الخبراء، إن حديث ولي العهد سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني أول من أمس في ” منتدى تواصل” عن التقنية ومستقبلها، وضرورة العمل على الاستفادة من أدواتها وتمكين شبابنا منها، يدل على رؤيا تستشرف المستقبل الذي ستشكله تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والبيانات والإنترنت، وهو ما يتطلب جهودًا مُتكاملة لتحويل المجتمعات من مجرد مستهلكين إلى مُنتجين للابتكار التكنولوجي.

ودعا الخبراء المعنيين في الحكومات والقطاع الخاص إلى  أهمية التركيز على محور التعليم الذي يؤدي دورا أساسيا في تأهيل وتحضير الصغار واليافعين للمستقبل، مؤكدين على أن تطوير أنظمتنا التعليمية يجب أن يركز على المهارات الرقمية والابتكار الذكاء الاصطناعي مع التركيز على تدريب المعلمين على أساليب التعليم الرقمي وربط البحث العلمي بالسوق وواقع القطاعات الاقتصادية، فضلا عن أهمية العمل على تطوير البنية التحتية للاتصالات والإنترنت ودعم الريادة التقنية والشباب الريادي لتحويل أفكارهم إلى مشاريع تقنية اقتصادية مجدية.
وأكدوا على أهمية العمل على محور البيئة التشريعية والتنظيمية، والتي يجب أن تواكب التطورات التقنية الحاصلة، وتحديد الأولويات الوطنية والمجالات التي تملك فيها ميزة تنافسية، أو التي تواجه فيها تحديات كبيرة (مثل ندرة المياه أو الأمن الغذائي)، والتركيز على تطوير حلول تكنولوجية محلية لهذه القضايا.
وكان سمو ولي العهد الأمير
الحسين بن عبدالله، أكد في كلمته الافتتاحية لـ”منتدى تواصل 2025 ” الذي انعقد أول من امس السبت، على أهمية التقنية وأدواتها والتي بدأت ترسم ملامح مستقبل الدول والاقتصادات ومنها الأردن، وأهمية تمكين شبابنا وأصحاب المواهب من هذه الأدوات للإسهام في إنتاج التقنية بدلا من استهلاكها.
وقال سموه في كلمته: ” لا بد أن نواصل تمكين مواهبنا الفتية من امتلاك أدوات العصر، خاصة بعد إسهامات التكنولوجيا والتقنيات الحديثة في كل مجالات الحياة، ففي الاقتصادات المتقدمة، لم تعد القيمة تقاس فقط بما تنتجه المصانع، بل بما تنتجه العقول، وقد أدى استثمار هذه الدول في رأس المال البشري، والبحث والتطوير إلى بناء أنظمة اقتصادية قادرة على التجدد والابتكار كمحرك رئيس للإنتاجية والتنافسية، وتأسيسا على ذلك، رأيت أن أتحدث معكم عن بعض الأولويات الوطنية والفرص التي يمكن اغتنامها بالاعتماد على التكنولوجيا وتقنيات المستقبل”.
وتابع سموه قائلا: ” وأدعوكم ومن عنوان هذا الملتقى وأهدافه، أن تفكروا بشكل الأردن بعد عقد أو عقدين، كيف سيكون؟! كيف ستستطيع التكنولوجيا أن تقدم حلولا لندرة المياه والموارد، للبيئة وحمايتها، للنقل، لمستقبل المدن والخدمات، للتعليم والصحة، لخدمة الإنسان الأردني والتسهيل عليه، وان تفكروا بمستقبل الفرص والمهن، كيف ستكون التكنولوجيا وسيلة فاعلة لصناعات ثقافية وإبداعية تحتفي بإرثنا الكبير وتراثنا الفريد وتاريخنا المتجذر، وتتبدى إنتاجات معرفية أردنية عالمية، تستند إلى لغتنا وعاداتنا وتنوع مجتمعنا وثراء هويتنا الوطنية الأردنية”.
وأكد سمو ولي في العهد في كلمته أن علينا أن “نصارح أنفسنا وأن نشير إلى مواقع التقصير والضعف، وأن نعوض سنوات أضاعها التردد والمماطلة في التنفيذ”، وأنه من المهم ” ألا نكون مجرد مستهلكين للتكنولوجيا، بل أن نكون روادا في صناعتها، ومؤثرين في رسم مساراتها”.
رؤية وطنية ومبادرات ممنهجة
ويرى خبير إستراتيجيات الذكاء الاصطناعي والميتافيرس رامي الدماطي أن التحول من الاستهلاك إلى الإنتاج في مجال التقنية بالعموميات “يتطلب رؤية وطنية تطبق بقرارات ومبادرات ومشاريع حكومية جادة وممنهجة طابعها الشمولية والتنفيذ على مستوى وطني باتساق وانسجام”.
وقال الدماطي: “إن ما أشار إليه سمو ولي العهد يؤكد أن الأردن لا يجب أن يبقى مجرد مستهلك للتقنية، بل يجب أن يصبح منتجاً لها، ومؤثراً في تشكيل مستقبلها، فهذا التحول لا يتم فقط بالنوايا، بل عبر سياسات واضحة”.
وأضاف: “أن الحكومة مطالبة اليوم بأن تكون الممكن الأول لهذا التحول، عبر سنّ تشريعات مرنة، وربط البحث العلمي بالاحتياجات الفعلية للسوق”.
وأوضح الدماطي أن الحكومة يجب أن تعمل على سياسات يجب أن تبدأ من تحديث المناهج التعليمية لتشمل علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي مبكراً، وتوفير حوافز استثمارية لرواد الأعمال في التكنولوجيا، وتأسيس صناديق دعم وتمويل للمشاريع التقنية الناشئة.
وشدد الدماطي على أهمية دعم الريادة التقنية ونقلها من المبادرة الفردية إلى حاضنات وطنية للابتكار.
الريادة التقنية لم تعد خيارا
وبين الدماطي أن دعم الريادة التقنية “لم يعد خياراً بل ضرورة”، حيث يجب أن يتجسد هذا الدعم في إطلاق حاضنات ومسرّعات أعمال متخصصة بالذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة، مع توفير بيئة تنظيمية وتشريعية حاضنة للمخاطرة والابتكار.
وأشار إلى أهمية تمكين الشباب عبر برامج تدريبية احترافية وتحفيزهم لتأسيس شركات ناشئة ما يُعد عاملاً حاسماً في بناء اقتصاد رقمي تنافسي.
وقل الدماطي: “لا بد أن تتحول قصص النجاح من حالات فردية إلى منظومة متكاملة ترعاها الدولة بشراكة حقيقية وكاملة مع القطاع الخاص”.
أنظمة تعليمية تركز على الابتكار
وقال الخبير الاقتصادي وجدي المخامرة إن أهم المحاور التي يجب التركيز عليها لنتحول من مستهلكين إلى منتجين للتكنولوجيا هو ” التعليم”؛ لأنه الأساس لتشكيل المستقبل، داعيا إلى تطوير الأنظمة التعليمية لتركز على موضوع الابتكار من خلال إعادة هيكلة المناهج الدراسية لتركز على حل المشكلات والإبداع التقني، مع تدريب المعلمين على أساليب التعليم الرقمي.
حاضنات التصنيع ودعم الريادة التقنية
واقترح المخامرة العمل على إنشاء حاضنات التصنيع المحلي من خلال دعم تصنيع المكونات الإلكترونية وتطوير الأجهزة بتكاليف تنافسية مثل إنشاء مناطق صناعية تقنية بضرائب مخفضة.
ولفت إلى أهمية تمكين الشركات الناشئة الهادفة وتمويل “مشاريع التقنية العميقة” مثل إنترنت الأشياء الصناعي، الروبوتات، والأنظمة المدمجة، وليس فقط التطبيقات التسويقية.
ودعا المخامرة الحكومة إلى العمل على مجموعة من المحاور لتعزيز الإنتاج في المجال التقني ومنها اتخاذ تشريعات جديدة وسن قوانين حماية بيانات مرنة لتجربة التقنيات الجديدة، وتقديم التمويل من خلال إنشاء صندوق سيادي للاستثمار في التقنية بعائد طويل المدى، وإعفاءات ضريبية للشركات التصنيعية التقنية.
البنية التحتية ومعامل التصنيع
وأشار المخامرة إلى أهمية تعزيز البنية التحتية للاتصالات من خلال العمل المتواصل على تطوير شبكات الجيل الخامس وخصوصا في المناطق الصناعية، وتشجيع وتطوير معامل تصنيع النماذج الأولية للمشاريع في الجامعات.
ودعا إلى تفعيل الشراكات الدولية وعقد اتفاقيات نقل تكنولوجيا مع دول رائدة بشرط توطين التدريب.
كيف ندعم الريادة التقنية
وعن دعم الريادة التقنية، اقترح المخامرة العمل على إنشاء وتعميم المسرعات متخصصة مثل مسرِّعات للذكاء الاصطناعي في القطاع الصحي أو الزراعي بدعم مالي وفني وغيرها، لافتا إلى أهمية العمل بجد على ربط البحث الأكاديمي بالسوق وتمويل مشاريع تخرج طلاب الهندسة والحاسوب بالشراكة مع الشركات.
واقترح المخامرة تقديم حوافز للمستثمرين في شركات التقنية الناشئة الأردنية، والعمل على تطوير منصة موحدة تكون بمثابة بوابة إلكترونية تجمع الرياديين، المستثمرين، والجهات الداعمة (مثل شركة تطوير المشاريع التقنية).

إستراتيجية للتحول من الاستهلاك إلى الإنتاج
وعلى صعيد متصل، أكد الخبير في مجال الاتصالات والتقنية وصفي الصفدي أن الانتقال من كوننا مجرد مستخدمين للتكنولوجيا إلى مطورين ومنتجين لها هو تحد كبير “يتطلب إستراتيجية شاملة”.
وبين الصفدي أن الإستراتيجية يجب أن تركز على الاستثمار في رأس المال البشري والتركيز على التعليم والتدريب في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وتطوير المهارات اللازمة للابتكار في الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، وإطلاق مبادرات لبرمجة الأطفال والشباب وتزويدهم بالأدوات والمعرفة اللازمة سيخلق جيلًا جديدًا من المبتكرين
ولفت إلى أن هذه الإستراتيجية يجب أن تبنى على بيئة حاضنة للابتكار من خلال إنشاء المزيد من حاضنات الأعمال والمسرعات التكنولوجية، ودعم الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا، وتشجيع البحث والتطوير، والشراكات بين القطاعين العام والخاص.

وقال الصفدي إن هذه الإستراتيجية يجب أن تبنى على تحديد الأولويات الوطنية والمجالات التي تملك فيها ميزة تنافسية، أو التي تواجه فيها تحديات كبيرة (مثل ندرة المياه أو الأمن الغذائي)، والتركيز على تطوير حلول تكنولوجية محلية لهذه القضايا، لافتا إلى أهمية تطوير تشريعات وسياسات داعمة تُشجع الابتكار، وتحمي الملكية الفكرية، وتوفر بيئة تنظيمية مُيسرة للأعمال التكنولوجية.

نماذج دولية ناجحة
وقدم الصفدي مجموعة من النماذج الدولية الناجحة والملهمة في تسخير التكنولوجيا لتحقيق التنمية والتحول من الاستهلاك إلى الإنتاج، منها أميركا التي تُعد رائدة عالميًا في نظام بيئي للذكاء الاصطناعي، حيث تقود أميركا الصناعة التقنية في أبحاث الذكاء الاصطناعي والاستثمار الخاص، وتُنتج نماذج تعلم آلة بارزة.
وأشار إلى تجربة الصين التي حققت تقدمًا هائلاً في مجال الذكاء الاصطناعي، وصناعة الإلكترونيات والهواتف المتنقلة مدعومة باستثمارات حكومية ضخمة، واليابان التي تعد من الدول الرائدة في التكنولوجيا بشكل عام وفي التكنولوجيا المتعلقة بالإنتاج بشكل خاص، وكوريا الجنوبية التي نجحت في التحول من اقتصاد منخفض الدخل إلى اقتصاد مرتفع الدخل، لتُصبح رائدة عالميًا في الابتكار والتكنولوجيا، مع شركات عالمية متميزة في صناعة الهواتف المتنقلة.
وأشار الصفدي أيضا إلى تجارب سنغافورة التي تُعد مثالاً للبلدان التي تُضاعف قدراتها التكنولوجية، بفضل موقعها الإستراتيجي، وحكومتها الداعمة للأعمال، وبنيتها التحتية المتقدمة، وتجربة الهند التي تُحقق تقدمًا كبيرًا في تصنيع الإلكترونيات، لتصبح مركزًا للبحث والتطوير في مجال الإلكترونيات، ولديها مبادرات ناجحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الزراعة وتوصيل الأدوية بالطائرات بدون طيار، فضلا عن تجارب ماليزيا وتايوان وفيتنام وتايلند التي برزت كقواعد تصنيعية قوية في صناعات الإلكترونيات والتكنولوجيا الفائقة.

المصدر الغد