يشهد العالم تحولًا جذريًا في كيفية تقديم الخدمات العامة، مدفوعًا بتطورات متسارعة في تقنيات الذكاء الاصطناعي، وبالنسبة للأردن، فإن هذه التقنية تمثل فرصة استراتيجية لتحسين جودة الخدمات الحكومية، وزيادة كفاءتها، وتحقيق استجابة أكثر فعالية لاحتياجات المواطنين. وتُعد الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي التي أطلقتها وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة خطوة متقدمة في الاتجاه الصحيح، حيث تضع إطارًا لتبني الذكاء الاصطناعي في القطاعات المختلفة، وتسعى إلى ترسيخ مكانة الأردن كمركز إقليمي للتقنيات الذكية، مع التركيز على مبادئ الحوكمة الرشيدة وبناء القدرات الوطنية.

وفي قطاع الصحة، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساهم في تسريع تشخيص الأمراض، وتحسين إدارة الموارد، وتوفير رعاية صحية استباقية، اما في قطاع التعليم، تتيح الأدوات الذكية تقديم محتوى مخصص لكل طالب حسب قدراته واحتياجاته، مما يقلص الفجوات التعليمية ويرفع من جودة مخرجات التعليم. أما في البلديات، فيمكن للتقنيات الذكية تحسين التخطيط الحضري، وإدارة المرور والنفايات، وتبسيط الإجراءات الإدارية.

وفي قطاع الزراعة، يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا كبيرة لتحسين إنتاجية المزارع، من خلال أنظمة ذكية لمراقبة المحاصيل والتربة والرطوبة، والتنبؤ بالطقس والآفات، وتحسين إدارة الموارد المائية. ويمكن لهذه التطبيقات أن تسهم في تقليل الفاقد، ورفع كفاءة الإنتاج، وتمكين صغار المزارعين من اتخاذ قرارات مستندة إلى بيانات دقيقة، ما يعزز الأمن الغذائي ويدعم الاستدامة الزراعية.

لكن هذه التطبيقات جميعها تعتمد على توفر البيانات، إذ يشكل توفر البيانات الحكومية المفتوحة والدقيقة والمنظمة حجر الأساس لأي نظام ذكاء اصطناعي فاعل، ولهذا، فإن مواصلة العمل على تحديث نظم إدارة البيانات، وتفعيل الحوكمة الرقمية، وتسهيل التكامل بين قواعد البيانات الحكومية، تُعد خطوات ضرورية لتحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع.

وبالنظر إلى التجارب الدولية، تقدم سنغافورة، وإيرلندا، والمملكة العربية السعودية نماذج ملهمة في توظيف الذكاء الاصطناعي لخدمة المواطن، كما يؤكد مؤشر جاهزية الحكومات للذكاء الاصطناعي لعام 2024، حيث تصدرت سنغافورة المؤشر عالميًا، بينما حلت إيرلندا ضمن المراكز العشرين الأولى، وبرزت السعودية ضمن الدول المتقدمة عربيًا.

وفي هذا السياق، تقدّم الأردن إلى المرتبة 49 عالميًا ضمن المؤشر لعام 2024، واحتل موقعًا متقدمًا على المستوى الإقليمي، مما يعكس الجهود الوطنية المبذولة في تطوير البنية الرقمية وتحسين السياسات.

وأخيرًا، إن نجاح الأردن في الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتحسين خدماته العامة لا يتطلب فقط توفر التكنولوجيا، بل الاستمرار والإسراع في بناء منظومة متكاملة تشمل: بيئة تشريعية داعمة، بنية تحتية رقمية متينة، كفاءات بشرية مؤهلة، وثقافة مؤسسية تعتمد على الابتكار والبيانات، حيث يأتي تشكيل المجلس الوطني لتكنولوجيا المستقبل مطلع هذا العام كمظلة وطنية تعكس التزام الدولة بتوجيه التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي في مسارات تنموية متكاملة، بالتكامل مع جهود وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة وبدعم من الفاعلين في القطاع الخاص، وفي مقدمتهم جمعية شركات تقنية المعلومات والاتصالات (إنتاج)، التي أطلقت مبادرة “المهتمين في الذكاء الاصطناعي في الأردن (AI Enthusiasts of Jordan – AI-EJO)” ، وهي مبادرة تهدف إلى تعزيز منظومة الذكاء الاصطناعي في الأردن من خلال بناء مجتمع يتكون من محترفي الذكاء الاصطناعي، والهواة، والأكاديميين، والطلاب بالإضافة إلى جهودها مع كافة الجهات ذات العلاقة حول الذكاء الاصطناعي. ومع استمرار هذا التعاون متعدد الأطراف، يمتلك الأردن المقومات للانتقال من الخدمات التقليدية إلى خدمات ذكية قائمة على الاستباقية والشفافية والفعالية، تُلبي تطلعات المواطن وتعزز ثقة المجتمع بالدولة.

*الرئيس التنفيذي / جمعية شركات تقنية المعلومات والاتصالات في الأردن – انتاج