نماذج اللغة الكبيرة هي برمجيات حاسوبية تم تدريبها على الكثير من البيانات النصية لفهم اللغة البشرية وتوليدها، ويمكن لذلك النوع من التعلم العميق مثل “شات جي بي تي” فهم الأسئلة والرد عليها، بل وكتابة المقالات وحتى ترجمة اللغات.
وكلما ازداد كم البيانات التي يتم تدريب تلك النماذج عليها، أصبحت أفضل في فهم اللغة وتوليدها، مما يعني أنها بشكل أو بآخر تصبح أكثر قدرة كل يوم. لكن عند تلك النقطة ينشأ سؤال جديد: هل هذه البرمجيات التي تزداد ذكاء وتُطور قدراتها يوما بعد يوم تمتلك وعيا فتدرك ما يطلب منها، أم أنها مجرد زومبي يعمل بناء على خوارزميات ذكية لمطابقة الأنماط؟
في دراسة جديدة نُشرت بدورية “تريندز إن نيوروساينس” بقيادة باحثين من “جامعة تارتو” في إستونيا، يحاول علماء الأعصاب اتخاذ زاوية علمية عصبية للإجابة عن هذا السؤال.
العلم يرفض
وبحسب الدراسة، يشير هذا الفريق إلى أنه على الرغم من أن استجابات أنظمة مثل “شات جي بي تي” تبدو واعية، إلا أنها على الأرجح ليست كذلك، ويسوق هذا الفريق 3 دلائل على ذلك الادعاء:
أولها أن المدخلات في نماذج اللغة تفتقد الإدراك المتجسد والمضمّن الذي يميز اتصالنا الحسي بالعالم من حولنا. والإدراك المضمّن المتجسد مفهوم يشير إلى أن الإدراك لا يقتصر على الدماغ فحسب، بل يتم توزيعه عبر الجسم ويتفاعل مع البيئة المحيطة، حيث تتشابك قدراتنا المعرفية بشكل عميق مع تجاربنا الجسدية وتفاعلاتنا الحسية الحركية مع العالم، بينما تتمحور نماذج اللغة الكبيرة حول النص فقط.
أما الدليل الثاني بهذا السياق فيتعلق بافتقاد بُنيات خوارزميات الذكاء الاصطناعي الحالية إلى السمات الرئيسية الطبيعية التوصيلية للنظام القشري المهادي في الدماغ، والذي يمكن أن يرتبط بالوعي في الثدييات.
وثالثا، فإن مسارات النمو والتطور التي أدت في المقام الأول إلى ظهور كائنات حية واعية ليس لها مثيل في الأنظمة الاصطناعية كما يتم تصورها اليوم.
من علم الأعصاب إلى الفلسفة
وفي مقال لعالم اللسانيات والفيلسوف الأميركي الشهير نعوم تشومسكي، فإن العقل البشري ليس فقط محركا إحصائيا يهدف لتحليل الأنماط في كم هائل من البيانات وكنتيجة لذلك يستنبط الاستجابة الأكثر احتمالا، ولكنه نظام فعال يعمل بكميات صغيرة من المعلومات، ولا يسعى إلى استنتاج الارتباطات بين نقاط البيانات، ولكن لإنشاء تفسيرات أكثر عمقا من مجرد جمع مخرجات البيانات الاحتمالية.
وفي هذا السياق، تعد هذه النماذج محاكاة للبشر ولا تمتلك وعيا بشريا، كما يوضح جون سيرل أستاذ فلسفة العقل واللغة بجامعة كاليفورنيا بيركلي، حينما يؤكد أن الذكاء الاصطناعي يتحدث ويكوّن الجمل بطريقة نحوية وليست دلالية أو ذات معنى، وهما أمران منفصلان تماما، فبناء الجمل لا يمكن له أن يكون مؤسسا لمكونات عقلية مثل المعنى أو الدلالة التي يمتلكها البشر.
في النهاية، يوضح الباحثون بالدراسة الجديدة أنه ما يزال أمام علماء الأعصاب والفلاسفة طريق طويل لفهم الوعي، وبالتالي فالطريق أطول للوصول إلى الآلات الواعية.
المصدر الجزيرة