على مر التاريخ، حمل العرب مشعل العلم والمعرفة، وأثروا الحضارة الإنسانية باختراعات واكتشافات لا حصر لها. واليوم، يقف العالم على أعتاب ثورة علمية جديدة يقودها الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية، ثورة تقدم إمكانيات هائلة لتطوير حياتنا وتحقيقِ رفاهية البشرية جمعاء. بينما تتسابق الدول الغربية والشرقية على تحقيق الريادة في هذه المجالات، يبرز تساؤل حاسم: هل يتبوأ العرب مكانة ريادية في قيادة هذه الثورة العلمية غير المسبوقة ويقفزوا إلى مقدمة الركب؟
تاريخ حافل بالعلم والابتكارِ:

لم تكن مساهمة العرب في مجالِ العلم وليدة اليوم، بل تمتد جذورها إلى قرونٍ خلت.فقد برز العديد من العلماءِ العرب الذين أُسسوا لمدارس علمية رائدة، وساهموا في تطويرِ مختلفِ المجالاتِ العلميةِ، مثل الرياضيات والفلك والطب والكيمياء وغيرها. من أبرز هؤلاء العلماء على سبيا المثال لا الحصر : الفيلسوف والطبيب العالم ابن سينا الذي كتب «القانون في الطب»، وهو أحد أشهر الكتب الطبية في التاريخ. و عالم الرياضيات والفلك الخوارزمي الذي أسس علم الجبر وأسهم في تطوير الخوارزميات، وعالم البصريات ابن الهيثم الذي قدم نظريات مهمة في علم الضوء وأسهم في تطوير المنهج العلم، وبرز الكثير من العلماء مثل : الفارابي و جابر بن حيان و الرازي و ابن رشد و ابن النفيس وغيرهم الكثير.

في العصر الحديث، استمر العلماء العرب في تحقيق إنجازات بارزة. على سبيل المثال: العالم علي مصطفى مشرفة الذي يعتبر أحد أبرز العلماء المصريين في مجال الفيزياء النظرية، تأثر مشرفة بأبحاث أينشتاين في النسبية العامة والخاصة، وقام بتقديم عدة أبحاث تفسر وتدعم نظريات أينشتاين، نشر العديد من الأبحاث العلمية في مجالات الفيزياء النظرية التي أثارت إعجاب أينشتاين، ما جعله يصف مشرفة بأنه «أينشتاين العرب» .كذالك أحمد زويل العالم المصري الذي حصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999 لأبحاثه في مجال الفيمتوثانية.

السبيل إلى الريادة في الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية
اليوم، وبعد قرون من الركود العلمي، يبدو أن البوادر الأولى لنهضة عربية جديدة تلوح في الأفق، حيث يطل علينا عصر التقنيات المتقدمة كالذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية. هذه التقنيات الثورية التي تتنبأ لها الدراسات بأن تغير شكل العالم كما نعرفه، لتفتح آفاقًا جديدة للاكتشافات والابتكارات في شتى المجالات. يبدو أنه لا سبيل للعرب لقيادة ثورة الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية سوى السعي الجاد والتخطيط الاستراتيجي للاستفادة من هذه التقنيات الفتية، والاستثمار في رأس المال البشري الواعد وتشجيع البحث العلمي الجاد في هذا المجال. لتحقيق هذه الحلم ، يجب التركيز على خمسة محاور رئيسية:

1.وجود الارادة العربية الحقيقية الصادقة الموحدة وتضافر الجهود للانطلاق نحو الابداع الحقيقي في الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية.

2.الاستثمار في البحث والتطوير عن طريق تأسيس مراكز بحثية متقدمة تهتم بالذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية، وتوفير تمويل كاف لدعم المشاريع البحثية والتطويرية في هذه المجالات، وتشجيع المبادرات الريادية في مجال التقنية، وخلق بيئة جاذبة للكفاءات العربية والعالمية.

3.تعزيز التعليم والتدريب وتطوير المهارات من خلال تحديث المناهج الدراسية لتشمل أحدث التقنيات والمفاهيم في الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية، وتقديم برامج تدريبية وورش عمل مستمرة لتطوير مهارات الشباب في هذه التقنيات.

4.التعاون الدولي من خلال إقامة شراكات مع المؤسسات والجامعات والشركات الرائدة عالميا في مجال التكنولوجيا والاسنعانة بخبراتهم، و تبادل المعرفة من خلال المؤتمرات والمنتديات العلمية وتبادل العقول المبدعة الخلاقة.

5.والاهم هو : « إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين»، تقوى الله في جوهرها تعني مخافة الله في النوايا والقول والعمل، فمن خلال العمل الحقيقي الجاد والإخلاص في السعي نحو تحقيق الأهداف النبيلة وخدمة العلم، مع التحلي بالأخلاق العالية والقيم السامية والصبر سيستطيع العرب تحقيق القفزة وقيادة العالم بالعلم والمعرفة.

التحديات التي تواجه العرب
بالرغم ان بعض الدول العربية بدأت خطوات محدودة، لكن الطريق لا يزال طويلاً وشاقاً، فثمة تحديات كبيرة تواجه هذه الطموحات وتتمثل في : نقص التمويل اللازم للأبحاث والتطوير الذي يشكل عائقًا كبيرا، وكذالك البنية التحتية التي تحتاج الدول العربية إلى تطويرها لدعم الابتكارات الحديثة، وكذالك هجرة العقول العربية المتميزة للخارج، بالإضافة إلى محدودية البيئة المحفزة للإبداع وريادة الأعمال في بعض البلدان العربية، وايضا التحديات الأخلاقية التي يجب التعامل معها بحذر مثل الخصوصية والعدالة والمسؤولية وغيرها. ورغم هذه التحديات، إلا أن الفرصة مازالت سانحة أمام العرب لاقتناص موقع متقدم على خريطة العالم التكنولوجية الجديدة.
ختامًا، إن ثورة الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية قد تكون فرصة تاريخية للعرب لإعادة بريقهم العلمي ونهضتهم الحضارية، وتأكيد حضورهم على خارطة العالم التقني بقوة. لكن هذا الأمر لن يتحقق إلا إذا اغتنمنا هذه الفرصة الآن، وأخذنا دورنا الريادي في هذه الثورة العلمية بكل إرادة وعزم، وإلا فسوف نبقى متخلفين عن ركب التقدم التقني العالمي، كما حدث في ثورات علمية سابقة. لنجعل هذه اللحظة تاريخيةونثبت للعالم أن العرب قادرون على القيادة في عصر التكنولوجيا المتقدمة. بالتعاون والعمل الجاد، يمكننا أن نحقق التميز ونرسخ في ذاكرة الأجيال القادمة أننا كنا خير من حمل مشعل العلم والمعرفة وساهم في بناء عالم أفضل للبشرية. كما اذكر بقول الله تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».
والله ولي التوفيق

بقلم حسام الحوراني الدستور