لقد أحدث العصر الرقمي تحولًا جذريًا في أساليب حياتنا وطرق عملنا ووسائل تواصلنا، لا سيما ان الأسواق الرقمية ساهمت في تبسيط مهامنا اليومية، حيث يبرز الاحتياج إلى فهم أعمق للتكنولوجيا والانتقال من مجرد استخدامها إلى إنتاجها، خاصة في مجالات «التكنولوجيا العميقة”(Deep Tech)
وتشمل التكنولوجيا العميقة مجموعة من التقنيات المتقدمة التي تعتمد على الاكتشافات العلمية والهندسية الجديدة لحل مشاكل معقدة وصعبة في مختلف المجالات، وهي تختلف عن التقنيات التقليدية، لأنها تتطلب عادةً تطويرًا طويل الأمد واستثمارًا كبيرًا في البحث والتطوير، كما تعتمد على المعرفة العلمية المتقدمة والتكنولوجيا المتطورة، ومن أهمها الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، والتكنولوجيا الحيوية، والروبوتات والأنظمة المستقلة، والحوسبة الكمومية (Quantum Computing) وتكنولوجيا النانو، والطاقة المتجددة والتكنولوجيا النظيفة، وإنترنت?الأشياء، والواقع الافتراضي والواقع المعزز، والتكنولوجيا الطبية المتقدمة.
وتعتبر التكنولوجيا العميقة القوة المحركة وراء الابتكارات الرائدة، فمن خلال تبني وإنتاج هذه التقنيات، تستطيع الدول تعزيز النمو الاقتصادي عبر تشجيع الابتكار وتوفير فرص عمل ذات قيمة عالية وتعزيز سيادتها الرقمية لتكون مستقلة في اتخاذ قراراتها على كافة الأصعدة ولتحصل على احترام الدول الأخرى، فعلى سبيل المثال، استثمرت الصين بشكل كبير في مجال الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية، مما جعلها ليس فقط مستخدمًا للتكنولوجيا، ولكن منتجًا رائدًا لها، حيث ساعد هذا الاستثمار في خلق فرص عمل جديدة وتعزيز الاقتصاد الصيني، وجعله? منافسًا عالميًا في هذه المجالات.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للدول تعزيز التنافسية العالمية بالبقاء في مقدمة السباق التكنولوجي، فكوريا الجنوبية مثال آخر، حيث تُعتبر موطنًا لشركات تكنولوجيا عالمية مثل سامسونج وهيونداي، والتي تستثمر بكثافة في البحث والتطوير لإنتاج تقنيات جديدة؛ فمن خلال التركيز على إنتاج التكنولوجيا، تمكنت كوريا الجنوبية من تعزيز مكانتها الاقتصادية والتكنولوجية عالميًا.
وفي حين توفر الأسواق الرقمية بيئة مريحة للمستهلكين لبيع وشراء المنتجات والخدمات عبر الإنترنت، من الضروري تجاوز هذه المنافع السطحية للنظر في متطلبات بناء مجتمع رقمي مستدام يقوم على إنتاج التكنولوجيا بدلا من استخدامها فقط.
إن المجتمع الرقمي الحقيقي يتطلب تبني نهج شامل يشمل البنية التحتية الرقمية من خلال بناء شبكة رقمية قوية وآمنة لدعم اقتصاد رقمي مزدهر؛ فعلى سبيل المثال طورت سنغافورة بنية تحتية تقنية متقدمة، مما جعلها مركزًا إقليميًا للتكنولوجيا والابتكار، وليس فقط سوقًا للمستهلكين، كما أن خصوصية البيانات والأمن السيبراني لا بد من أخذها بعين الاعتبار، وذلك لضمان حماية البيانات الشخصية والتصدي للتهديدات الإلكترونية؛ فألمانيا مثلا وضعت قوانين صارمة لحماية البيانات، وهي تشجع الشركات على تطوير حلول أمنية مبتكرة، مما يدعم صناعة م?لية قوية في مجال الأمن السيبراني.
كما ان تمكين المواطنين من المهارات الرقمية اللازمة لإنتاج التكنولوجيا متطلبا رئيسياً لتحقيق النجاح في هذا العصر الرقمي،فإيرلنداالمعروفة بريادتها في التعليم والتكنولوجيا، تستثمر بشكل كبير في التعليم التقني والبحث العلمي، مما أدى إلى إنشاء بيئة مزدهرة للشركات التقنية الناشئة؛ أما الذكاء الاصطناعي الأخلاقي والابتكار المسؤول فهو ضروري جدا؛ فعلى سبيل المثال تعمل اليابان من خلال شركاتها وبدعم حكومي على تطوير روبوتات وذكاء اصطناعي يركز على تحسين جودة الحياة، مع مراعاة الجوانب الأخلاقية والاجتماعية.
كما أن هناك دورا أساسياً للمؤسسات التعليمية؛ حيث إن لها دوراً حيويًا في تنشئة الجيل القادم من منتجي التكنولوجيا، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تحديث المناهج الدراسية التي تتضمن التقنيات المتقدمة في البرامج الأكاديمية لتعكس التطورات الحديثة؛ فجامعة تسينغهوا في الصين، على سبيل المثال، تُعتبر مركزًا رئيسيًا للبحث في التكنولوجيا العميقة، وتُخرج مهندسين وعلماء مؤهلين.
كما أن تشجيع التعلم العملي يدعم المشاريع التطبيقية والتجارب الواقعية لتعزيز الفهم العملي؛ ففي السويد مثلا، تتعاون الجامعات مع الشركات لتوفير فرص تدريبية ومشاريع مشتركة للطلاب، ولا بد من الأخذ بعين الاعتبار تعزيز التعاون بين التخصصات، وذلك لكسر الحواجز بين المجالات المختلفة وتبني نهج متعدد التخصصات لتشجيع الابتكار؛ وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) في الولايات المتحدة الذي يشجع على التعاون بين مجالات الهندسة والعلوم والطب لتطوير تقنيات مبتكرة.
ومن أهم الأدوار التي لا بد للمؤسسات التعليمية أن تلعبها، تنمية ثقافة الابتكار، وذلك من خلال خلق بيئات تحفز على الإبداع والمخاطرة المدروسة لتطوير حلول جديدة؛ ففي ماليزيا مثلا، تُعتبر مدينة سايبرجايا مركزًا للابتكار التكنولوجي، حيث تدعم الحكومة والشركات ثقافة ريادة الأعمال والابتكار وتطمح هذه المدينة لتكون وادي السيليكون في ماليزيا.
وأخيرًا، فمن خلال التحول من استهلاك التكنولوجيا إلى إنتاجها، مع التركيز على تطوير القدرات المحلية في التكنولوجيا العميقة، يمكننا تشكيل مستقبل تمكّن فيه التكنولوجيا الأفراد والمجتمعات بدلاً من التحكم بهم، وهذا المسار ليس خيارًا، بل ضرورة لضمان الازدهار والأمان في عالم رقمي متسارع.
كما تُظهر تجارب الدول المذكورة، فإن الاستثمار في إنتاج التكنولوجيا وتعزيز المهارات الرقمية يساهمان بشكل كبير في تحقيق التنمية المستدامة، والسيادة الرقمية والتقدم الاجتماعي والاقتصادي.