تتصاعد اهتمامات العالم بالتكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي بشكل متسارع، ويشتد التنافس بين الدول في هذا المجال، الأمر الذي دفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الإعلان عن مشروع كبير هوستارغيت StarGate والذي يهدف إلى إقامة بنية تحتية جديدة لمنظومة ذكاء اصطناعي هائلة باستثمارات تصل إلى 500 بليون دولار. وستعمل هذه المنظومة على تقديم خدمات الذكاء الاصطناعي للمرافق الخدمية والصناعية على مختلف أنواعها بما فيها الصناعات الحربية بغية تفوق أميركا على الصين واليابان والهند وغيرها. 

ومن هنا فإن السنين القادمة ستحمل معها موجات ضخمة ومنوعة من الذكاء الاصطناعي من شأنها أن تحدث تغييرات ثقافية واجتماعية واقتصادية وتكنولوجية على المستويات الوطنية والعالمية،  وعلى مستوى المؤسسات والأفراد. يضاف إلى ذلك حدوث تغيرات كبيرة على معالم سوق العمل في السنوات القليلة المقبلة، لتختفي وظائف كثيرة جدا وخاصة ذات الطابع التكراري والبيروقراطي والتوثيقي والنمطي، وفي نفس الوقت سوف تنشأ الحاجة إلى وظائف من نوع جديد تقوم اساسا على المهارات والخبرات والإبداع وليس الشهادات والسنوات. ومثل هذا التغيير سوف يشمل شتى المهن والأعمال إن لم يكن جميعها على الإطلاق، ابتداء من الطب والتمريض وعلم النفس مروراً بالهندسة والزراعة والصناعات والفنون وانتهاء باللغات والمالية والقانون والسياسة. بمعنى انه لن يكون هناك مجال للعمل لن تدخله التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي سواء في استبيان المعلومات أوتصميم الإجابة أو توقعات النتائج.

ومن هنا فإن الاهتمام المبكر بهذا الموضوع وتمكين الأجيال الصاعدة من التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، إضافة إلى المواضيع الدراسية الأخرى، وإعدادهم ليكونوا متفاعلين منتجين وليس مجرد مستهلكين، سيشكل نقطة تحول مفصلية اقتصاديا واجتماعيا. ويتوقع أن يحتل هذا الموضوع أولوية كبيرة لدى المؤسسات التعليمية الأساسية والجامعية على حدا سواء. ومن هنا فإن تشكيل “المجلس الأعلى لتكنولوجيا المستقبل” الذي أوعز جلالة الملك إلى رئيس الوزراء بتشكيله منذ أيام من شأنه أن يدفع بالاتجاه الصحيح.

ومع هذا فإن الذكاء الاصطناعي له بعض السلبيات إذا لم يكن توظيفه والرجوع إليه قد تم وضعه في الإطار الصحيح سواء من حيث المنتج النهائي، أو التوقيت الزماني أو المكاني. ونظراً للفجوة الكبيرة بين الدول المتقدمة والدول النامية من حيث درجة التصنيع وثقافة العلم والتكنولوجيا لدى المجتمع، ومعدل الإنفاق على البحث والتطوير والإبداع، وقدرات مؤسسات البحث ومدى استثمار رأس المال البشري، فإن الدول النامية ستكون أمام احتمالات تأثرها بشكل سلبي أكبر بكثير من الدول المتقدمة، الأمر الذي يستدعي الالتفات إلى عدد من المسائل وربما في الإطار التالي: 

اولا: ضرورة إدخال مادتي التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي إلى التعليم الأساسي كما فعلته وزارة التربية والتعليم ومن الصفوف فوق المتوسطة وحتى التخرج من الجامعة. 
ثانياً: دراسة التأثيرات السلبية لهذه المواد على طريقة تنامي مقدرة الطالب على التفكير والتحليل والإبداع وعلى دافعيته للعمل والجهد حتى لا يتحول الطالب إلى الاعتماد الكلي على الحاسوب والإنترنت وبدونهما لا يستطيع عمل شيء. 

ثالثاً: إعداد البرامج الإثرائية اللازمة لتمكين المعلمين واساتذة الجامعات من التعامل مع التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي كمحرك معقد التأثير في الثقافة المعاصرة من جانب، وكجزء من مهارات جديدة من جانب ثان، وكمجال غير اعتيادي سوف يدخله الطالب من جانب ثالث ويؤثر في تفاعله مع البيئة التعليمية. 

رابعاً: تمكين الطلبة من المهارات اللغوية كتابة وقراءة وحديثا واستماعاً وتفاعلاً واستيعابا حتى يكون الطالب قادراً على قراءة المادة المكتوبة بوعي وعقل وتفهم وقادرا على انتاج الأفكار الجديدة. خامساً: تطوير البرامج التي تمكن الطالب من المهارات التقليدية الأساسية وأهمها المهارات اللغوية إضافة إلى الرياضيات والعلوم ومهارات التعلم والإبداع، ومهارة صنع الاشياء، خاصة وان ضعف هذه المفردات لدى طلبتنا لن يمكنهم من النجاح في التعلم الذاتي الذي أصبح ركناً أساسياً للتعليم في الحاضر والمستقبل.  

سادساً: إذا استمر فقر التعلم لدى طلبتنا على حاله فإن التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي ستتحول من “محفز” للتفكير والإبداع إلى “ملقن” للطالب ليأخذ المعلومة ويعيد قراءتها أو كتابتها بعد حفظها. 
سابعاً: لا بد من إجراء دراسات معمقة بعيدا عن التعميم حول الجانب التربوي في المؤسسة التعليمية، كيف يمكن للمعلم والاستاذ والمدرسة والجامعة أن يكون لهم دور حقيقي ومتقدم في تطوير عقلية الطالب وبناء شخصيته وتنمية روح الفريق والعمل المشترك في جوانبها الوطنية والإنسانية والشخصية والمجتمعية إذا كان الذكاء الاصطناعي سيوفر له الاجابة عن أي سؤال ويقدم الحل لأي معضلة دون جهد ذاتي؟ 

ثامناً: ضرورة تطوير مدونات سلوك تضع بعض الضوابط التربوية والأخلاقية والسلوكية للطلبة في وقت مبكر وكذلك للاساتذة والمعلمين حتى لا تطغى الاستعمالات السلبية للذكاء الاصطناعي على الاستعمالات الايجابية المفيدة.

وأخيراً فإن موجة الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية المتجددة ستضع ضغوطا كبيرة على المجتمعات عموماً وعلى مجتمعات الدول النامية بشكل خاص لغياب الاقتصادات الصناعية التي تساهم في توجيه استعمال للذكاء الاصطناعي لغايات الإنتاج والبناء والإضافة. الأمر الذي يجب أن تعمل الدولة معه على تطوير الاقتصاد الوطني باتجاه التصنيع والتكنولوجيا المتقدمة وتطوير الثقافة باتجاه العلم والعمل المتقدم وحل المشكلات في جميع القطاعات، وان يتم توجيه الشباب في وقت مبكر لاستثمار التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي في تطوير الإمكانات الإنتاجية للبلاد من صناعة إلى زراعة إلى سياحة ومواجهة الاحتياجات من مياه إلى طاقة وابتداع الحلول لمعضلات الجفاف والتغير المناخي والتصحر وغيرها. ويبقى الاهتمام بالفكر والثقافة والفنون ومهارة صنع الأشياء والتفكير الناقد واللغة منطلقا صلبا لمستقبل التغيرات التي يحملها الذكاء الاصطناعي.

المصدر الغد