في خضم سباق عالمي لا يرحم نحو المستقبل، وفي وقت أصبحت الرقمنة المعيار الجديد للكفاءة والابتكار، يقف الأردن أمام مفترق طرق حاسم، هل نواصل الحديث عن التحول الرقمي كهدف بعيد المنال، أم نترجمه إلى واقع يمكن قياسه وتحقيقه؟ لقد حان الوقت لنقل هذا المفهوم من خانة “الرؤية” إلى خانة “المنهج” القائم على معايير واضحة، دقيقة، ومُلزمة.

ففي عصر تهيمن فيه السرعة والدقة على كل شيء، لم يعد من المقبول أن تستمر الجهات الحكومية في العمل بأساليب تقليدية. فالمواطن اليوم يقارن خدمة حكومية بمرونة تطبيق ذكي على هاتفه، ويريد جودة استجابة تفوق توقعاته، لا ترهقه بالروتين. ومع كل هذا، لا يمكن لأي جهة أن تنجح في التحول الرقمي من دون معايير يمكن قياسها.

ففي خضم سعي الأردن الدؤوب لتجسيد الرؤى الملكية السامية نحو حكومة رقمية متكاملة، يبرز “مؤشر قياس التحول الرقمي” كضرورة ليقدم لنا الإجابة. إنه ليس مجرد أداة تقييم، بل هو منصة تمكين ذكية، بوصلة تضيء دروب الجهات الحكومية، لتمكنها من تقييم موقعها بدقة متناهية، واكتشاف مواطن القوة، وتحديد فرص التحسين بعين ثاقبة. ولكن لنتذكر جيدا أن هذا المؤشر ليس عصا لمحاسبة المقصرين، بل هو يد تمد للمساعدة، ومحفز للتطوير، وموجه للاستراتيجيات نحو تحقيق أقصى درجات النضج الرقمي.

وقد تكون الاستراتيجيات مكتوبة بإتقان، والخطط مرسومة بدقة، لكن السؤال الجوهري هو: كيف نقيس النجاح؟ هل يمكن لجهة أن تدعي النضج الرقمي من دون مرجعية قياسية؟ هنا تظهر الحاجة الماسة إلى مؤشر وطني شامل يوضح موقع كل جهة على خريطة التحول الرقمي، ويكشف مكامن الخلل والفرص على حد سواء.

ولذلك، لا بد من تطوير مؤشر وطني ذكي لقياس نضج التحول الرقمي لدى الجهات الحكومية ووضعه موضع التطبيق، بحيث يعتمد على 10 مناظير استراتيجية، و23 محورا، و96 معيارا دقيقا. هذا المؤشر لا يقيس الأداء فقط، بل يرسم صورة بانورامية للجاهزية الرقمية، بدءا من البنية التحتية، مرورا بالثقافة المؤسسية، وصولا إلى رضا المستفيدين.

ومن أبرز المناظير التي يقيسها المؤشر “حوكمة البيانات”، وهو منظور غالبا ما يغفل رغم أهميته القصوى. فالمعلومة الصحيحة في التوقيت المناسب قد تختصر أشهرا من العمل وتمنع أزمات مقبلة. لماذا لا تعامل البيانات كأصل استراتيجي لا يقل أهمية عن الميزانية أو الموارد البشرية؟

ومؤشر التحول الرقمي لا يكتفي بتقييم الوضع القائم، بل يدفع الجهات إلى التفكير في الغد. فمن خلال منظور “البحث والابتكار”، يسائل المؤشر كل جهة: ما مدى قدرتك على تبني تقنيات المستقبل؟ هل تفكر في الذكاء الاصطناعي كخيار حقيقي أم كترف نظري؟ فالتحول الرقمي لا يكتمل من دون روح الابتكار.

وأحد أكثر المفاهيم المغلوطة شيوعا، اعتبار التحول الرقمي مرادفا لتحديث الأجهزة أو شراء أنظمة. بينما الحقيقة تقول إن التحول يبدأ من الداخل من عقل الموظف، من سلوك المؤسسة، من قرار شجاع بتغيير طريقة التفكير. فكم من جهة أنفقت الملايين على التقنية لكنها فشلت لأنها لم تستثمر في عقلية من يستخدمها؟

ففي أحد القطاعات الخدمية، أظهر المؤشر أن الجهة تمتلك بوابة إلكترونية محدثة، لكنها تفتقر إلى تحليلات استخدام الزوار، ما انعكس سلبا على تحسين تجربة المستفيد. هنا، المعيار لم يكن مجرد “وجود خدمة إلكترونية”، بل مدى كفاءتها وقابليتها للتطوير.

فمن الذكاء بمكان أن يقيس المؤشر مستويات الالتزام وفق أربع درجات: التزام كلي، جزئي، عدم التزام، أو غير قابل للتطبيق. ما يعني أن القياس ليس أداة للمحاسبة، بل منظومة تشخيص ذكية تتيح لكل جهة أن ترى نفسها بمرآة الواقع. وهذا ما يحدث الفرق: الاعتراف بالفجوة هو أول خطوة نحو إغلاقها. فما يميز هذه المنهجية ويجعلها استثنائية هو أنها لا تصنف الأداء بنظام “النجاح أو الفشل” القاسي، بل تقدم تصنيفا متدرجا. هذا التصنيف الواقعي يمكّن الجهات من فهم وضعها الحقيقي من دون أي تزييف، مع الحصول على توصيات عملية قابلة للتطبيق تمكنها من التحسين التدريجي. إنه يرسخ قناعة راسخة بأن التحول الرقمي هو مسار مستمر من التعلم والتطور، وليس محطة وصول نهائية.

ومما يشار إليه أنه في ثقافة العمل الحكومي التقليدية، ينظر إلى الإخفاق كمصدر للقلق. لكن الواقع يقول إن الفشل المكتشف مبكرا، هو فرصة ذهبية لإعادة البناء على أسس أقوى. فالمؤشر يساعد الجهات على مواجهة إخفاقاتها بشجاعة، وتحويلها إلى نقاط انطلاق جديدة.

فالتحول الرقمي ليس مشروعا له خط نهاية، بل هو رحلة مستمرة من التطور، تتطلب شجاعة التقييم الذاتي، وشفافية لا تساوم في البيانات، والتزاما راسخا بالتطوير المستمر. إن التحدي الحقيقي الذي يواجه الأردن اليوم ليس في نقص الطموح، بل في قدرته على ترجمة هذا الطموح النبيل إلى واقع ملموس ومقاس، تسجل فيه الإنجازات، وتعالج فيه التحديات بفاعلية. فمع وجود أداة وطنية متكاملة وذات منهجية علمية بحجم مؤشر قياس التحول الرقمي تبدأ بقياس دقيق ومستمر لحاضرنا، يمكن تحويل عملية الرقمنة في الأردن إلى أداة لغد أكثر إشراقا، وأكثر رقمية، وأكثر ازدهارا

في النهاية، لا يمكن تحسين ما لا يمكن قياسه. والتحول الرقمي، رغم ما يحمله من وعود براقة، يبقى مجرد شعار إن لم يتم تأطيره ضمن معايير دقيقة، ومؤشرات قابلة للقياس، وآليات دعم مستمرة. الأردن يمتلك الإرادة والموارد، وينقصه فقط أن يجعل القياس ركيزة لكل خطوة رقمية مقبلة.

المصدر