في ظل تضخم الجرائم الإلكترونية التي يواصل قراصنة العالم الرقمي ارتكابها باحتراف، تصبح الحاجة أكثر إلحاحا يوما بعد يوم لـ”محو الأمية السيبرانية” بحسب ما يؤكده خبراء.
ويؤكد خبراء أن مسؤولية الحد من الأمية السيبرانية ليس مسؤولية فردية أو مسؤولية جهة واحدة ولكنها مسؤولية وطنية وجماعية تقع على عاتق الجميع، الحكومات والمؤسسات والشركات والنظام التعليمي والأفراد.
تعريف “الأمية السيبرانية”
لا يوجد تعريف محدد لمفهوم “الأمية السيبرانية” لكن يمكن وصفها بأنها عبارة عن “نقص في المعرفة والفهم الأساسيين” للمخاطر والتحديات المرتبطة بالفضاء السيبراني، بما في ذلك التهديدات الأمنية الرقمية، والممارسات الآمنة، وعواقب الإجراءات المتخذة في البيئة الرقمية”.
ومن الأمثلة على ذلك، عدم الإلمام بمخاطر التصيد الاحتيالي والبرامج الضارة وهندسة البرمجيات الاجتماعية، بالإضافة إلى عدم القدرة على تطبيق ممارسات الأمن السيبراني الأساسية مثل استخدام كلمات مرور قوية، وتفعيل المصادقة متعددة العوامل، وتوخي الحذر من الروابط المشبوهة.
باختصار، تعكس الأمية السيبرانية عدم القدرة على التعامل مع العالم الرقمي بأمان ومسؤولية.
وتقوم الجهات الرسمية الأردنية المعنية بقطاعات الاتصالات والتقنية والاقتصاد الرقمي بجهود للتوعية وبث الرسائل التوعوية، منها وحدة الجرائم الإلكترونية ووزارة الاقتصاد الرقمي والريادة والمركز الوطني للأمن السيبراني وهيئة تنظيم قطاع الاتصالات.
وفي إطار هذه الجهود المحلية، أطلق المركز الوطني للأمن السيبراني في الربع الأخير من عام 2023 ” منصة سيف اون لاين” التوعوية بهدف نشر التوعية بكل ما يتعلق بالأمن السيبراني وتوفير النصائح والإرشادات التي من شأنها حماية الأفراد في الفضاء السيبراني وتحصينهم من التعرّض لحوادث الأمن السيبراني مثل الاحتيال الإلكتروني وسرقة المعلومات والبيانات وغيرها الكثير.
وتحتوي منصة “سيف اون لاين” على نصائح وإرشادات متنوعة تستهدف الأفراد والعائلات والأطفال إلى جانب عدد كبير من النصائح الموجهة للشركات وأصحاب الأعمال، إذ يؤمن المركز بأهمية توفير منظومة أمن سيبراني متكاملة وموثوقة على جميع المستويات وذلك لتحصين جميع فئات المجتمع من مخاطر وتهديدات الأمن السيبراني.
عالم مترابط يحتاج وعيا سيبرانيا
وقال الخبير في تخصص الأعمال الإلكترونية الأستاذ الدكتور أحمد غندور: ” نعيش في عالم مترابط، إذ إن كل نقرة وكل تمرير شاشة تحمل أثرا مباشرا في حياتنا الاجتماعية والعملية اليومية”.
وأضاف غندور “رغم ذلك، ما يزال كثيرون يظنون أن الأمن السيبراني ليس من مسؤوليتهم ويعتبرونه شأنا تقنيا يخص قسم تكنولوجيا المعلومات أو الإدارة أو الحكومة، هذه النظرة لم تعد مقبولة وعدم فهم المخاطر السيبرانية الأساسية وكيفية التعامل معها أصبح شكلا جديدا من الأمية، فالأمية السيبرانية هي الأمية الجديدة، وهي أخطر مما نتخيل”.
ويرى غندور أن من لا يعرف القراءة والكتابة يوصف بالأمي، ومن لا يعرف كيف يحمي نفسه رقميا، يُصبح عرضة للخطر، ويجعل من حوله عرضة أيضا، لذا فالأمية السيبرانية هي خطر.
في الأردن يقدر عدد مستخدمي الإنترنت بأكثر من 11 مليون مستخدم، كما يتجاوز عدد مستخدمي الأجهزة الخلوية الذكية الـ8 ملايين مستخدم.
الوعي السيبراني سلوك
ويرى غندور أن الاختراقات وتعرضنا المستمر للقرصنة ليس مشكلة تقنية فقط، بل سلوكا بشريا، موضحا أن الأمن السيبراني يبدأ من الفرد، وليس من الجهاز، فالجدار الناري لا يحمي المستخدم من جهله.
وقال: ” كل شخص، مهما كان دوره، يجب أن يمتلك وعيا سيبرانيا أساسيا وكل مدرسة، جامعة، ومؤسسة يجب أن تتعامل مع الأمن السيبراني على أنه معرفة أساسية، بنفس الطريقة التي نجري فيها تدريبات إخلاء عند نشوب الحرائق، ويجب أن نجري تدريبات على التعامل مع الهجمات السيبرانية، تمارين تصيّد إلكتروني وهمية، ومحاكاة اختراق، وخطط استجابة وأدوار واضحة لكل فرد في حالة وقوع حادث أمني، هذه التمارين يجب أن تُنفذ دوريا وعلى جميع المستويات من: الإدارة، الموظفين، المعلمين، والطلاب”.
وأضاف غندور، “لبناء السلوكيات يتطلب الالتزام والقدوة ويجب أن يلتزم المديرون أولا بقواعد الأمن الرقمي، وألا يشاركوا كلمات المرور، وأن يُحدثوا أجهزتهم، وأن يبلغوا عن أي محاولة مشبوهة وهذه الممارسات تنتقل تلقائيا إلى باقي الفريق والسلوك هو خط الدفاع الأول”.
وأكد أهمية تنفيذ التدريبات وأنها بشكل منظم ومتدرج، ومناسب للمستوى الفني لكل فئة، فلا فائدة من تدريب معلم ابتدائي على تقنيات متقدمة لا يستخدمها، بالمقابل، تجاهل تدريب الإداريين أو المديرين بحجة أنهم مشغولون هو مخاطرة كبيرة فكل شخص مستهدف وكل شخص مسؤول”.
الأمية السيبرانية تحد خفي
ويرى الخبير في مجال التقنية والبيانات د.حمزة العكاليك أن الأمية السيبرانية تعد واحدة ” من أخطر التحديات الخفية”، التي تهدد المجتمعات الحديثة ومنها المجتمع الأردني، ليس فقط على مستوى الأفراد، بل على مستوى الأمن الوطني والاجتماعي والاقتصادي.
وأوضح العكاليك أن الأمية السيبرانية “لا تعني فقط الجهل باستخدام التقنيات، بل تشمل عدم القدرة على التمييز بين المصادر الموثوقة والمضللة، والعجز عن حماية البيانات الشخصية، والافتقار إلى الوعي بمخاطر الهجمات الإلكترونية والخداع الرقمي”.
وأضاف، ” مع تسارع التحول الرقمي، أصبح الجهل بهذه المهارات خطرا يعادل في تأثيره الجهل بالقراءة والكتابة سابقا، وربما أشد”.
المواجهة مسؤولية وطنية
وأكد العكاليك ” أن الحد من هذه الأمية، ليس مسؤولية فردية أو خيارا ثانويا، بل مسؤولية وطنية ومجتمعية مشتركة تبدأ من السياسات الحكومية، مرورا بالمؤسسات التعليمية، وصولا إلى الأسرة والإعلام.
وقال: “يجب أن تُدمج الثقافة السيبرانية في المناهج الدراسية منذ المراحل المبكرة، وتُفعّل حملات التوعية العامة بأساليب تفاعلية ومواكبة لمستوى كل فئة عمرية، بحيث تُخاطب عقول الأطفال بقدر ما تلامس وعي كبار السن”.
ولفت إلى أن الشركات أيضا مطالبة بتدريب موظفيها وتعزيز ثقافة الأمن الرقمي داخل بيئات العمل، فالهجمات لا تستهدف فقط الأفراد، بل تمتد على شكل أوسع لتضرب مؤسسات بأكملها.
توعية الصغار والشباب
وتابع العكاليك، بالقول “لا بد من توعية الصغار والشباب والكبار، فالأمر ليس رفاهية، بل هو خط دفاع حيوي ضد خطر يهدد كل من يتعامل مع شاشة وهاتف وإنترنت، يجب أن نُعلّم الأطفال التفكير النقدي والتمييز بين ما هو حقيقي ومزيف، وأن نمنح الشباب أدوات الحذر الرقمي، ونساعد كبار السن على فهم أساسيات الأمان السيبراني”.
وأشار إلى أن كل منشور، كل رابط، كل نقرة قد تكون بوابة إلى تهديد خفي فبناء جيل رقمي واعٍ هو استثمار في أمان الأوطان الاقتصادي والأمني والسياسي، واستقرار المجتمعات، وكرامة الإنسان في زمن أصبحت فيه الهويات تُسرق بكبسة زر، والحروب تُخاض خلف الشاشات. فالتجاهل لم يعد خيارا، والتأخير قد يكون مكلفا جدا.
على من تقع المسؤولية؟
ومن جهته قال الخبير في مضمار الاتصالات والتقنية وصفي الصفدي “مسؤولية محو الأمية السيبراني هي مسؤولية جماعية ووطنية موزعة على عدة جهات”.
وقال “هناك مسؤولية على الحكومات، لافتا إلى أنه في الأردن، يتولى المركز الوطني للأمن السيبراني قيادة الجهود من خلال وضع الإستراتيجيات والأطر الوطنية وتنفيذ حملات التوعية العامة، فضلا عن قيام جهات رئيسة مثل وحدة الجرائم الإلكترونية،
ولفت إلى أن هناك مسؤولية على الشركات والمؤسسات التي يجب عليها الاستثمار في تدابير أمن سيبراني قوية وتوفير التدريب المنتظم للموظفين لحماية البيانات الحساسة، فضلا عن مسؤولية تقع على عاتق المؤسسات التعليمية التي ينبغي عليها دمج تعليم الأمن السيبراني في المناهج الدراسية على جميع المستويات، بدءا من مرحلة الطفولة المبكرة وحتى التعليم العالي.
وأكد الصفدي أن هناك مسؤولية كبيرة أساسية على أفراد يمثلون “جدار الحماية البشري” وخط الدفاع الأول، لذا يجب عليهم توخي الحذر وممارسة عادات آمنة عبر الإنترنت والإبلاغ عن أي أنشطة مشبوهة.
أهمية التعليم والتوعية لكل الشرائح
وشدد الصفدي على أن التعليم والتوعية اليوم هما عاملان حاسمان تعزز فهمنا، وبالتالي حمايتنا في العالم الرقمي، لافتا إلى أن هذين العاملين يجب أن يشملا كل الفئات العمرية في المجتمع.
وقال: ” بالنظر إلى التحول الرقمي المتسارع في الأردن وارتفاع معدلات الجرائم الإلكترونية، فإن تثقيف جميع الفئات العمرية يمثل ضرورة حيوية”.
وأوضح أنه بالنسبة لشريحة الأطفال ، يجب تزويدهم بأسس المواطنة الرقمية المبكرة، وتعليمهم كيفية تجنب المخاطر عبر الإنترنت، وحماية هوياتهم. وبالنسبة لشريحة شباب، قال الصفدي “على الرغم من إلمامهم بالتكنولوجيا، فهم عرضة للخطر، يساعدهم التعليم على فهم الهجمات المعقدة، وحماية معلوماتهم الشخصية والأكاديمية، وإدراك عواقب السلوك غير المسؤول عبر الإنترنت”. وأكد أهمية توعية البالغين أيضا، نظرا لتعاملهم مع بيانات شخصية ومالية حساسة، فإنهم يمثلون أهدافا رئيسة.
المصدر الغد