
يشهد الأردن في السنوات الأخيرة تحولاً لافتاً في بوصلة الاستثمار الأجنبي المباشر، مع تراجع الاعتماد التاريخي على القطاعات العقارية والمشاريع التقليدية، وصعود قطاعات التكنولوجيا والخدمات والأنشطة القائمة على المعرفة، في مسار يعكس إعادة توجيه مقصود نحو اقتصاد أكثر إنتاجية وقيمة مضافة.
هذا التحول لا يأتي بمعزل عن التطورات الاقتصادية العالمية، بل يتقاطع مع جهود حكومية لتحديث بيئة الأعمال وتسهيل دخول المستثمرين، إلى جانب توسع الطلب الإقليمي على الخدمات الرقمية والمالية.
وتشير البيانات الرسمية إلى أن صافي الاستثمار الأجنبي المباشر بلغ في عام 2024 نحو 1.637 مليار دولار، أي ما يعادل 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي. كما سجّل العام نشاطاً متصاعداً، حيث ارتفعت التدفقات بنسبة 14.3% في الربع الأول من 2025 لتصل إلى 339.3 مليون دولار، قبل أن ترتفع في النصف الأول من العام نفسه إلى 1.05 مليار دولار، بزيادة نسبتها 36.4% عن الفترة نفسها من 2024. وتُظهر الإحصاءات أن 64.8% من هذه الاستثمارات جاءت من الدول العربية، خصوصاً الخليج، ما يعكس عمق الروابط الاستثمارية بين الجانبين، فيما شكّلت أوروبا 21.4%، إضافة إلى 5.2% من دول آسيوية.
تحوّل قطاعي يعيد ترتيب المشهد الاقتصادي
وتكشف الأرقام اتجاهاً واضحاً نحو القطاعات ذات النمو السريع، إذ استحوذ قطاع التمويل والتأمين على 23.4% من التدفقات الجديدة، في وقت صعد فيه قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ليستقطب 10% من الاستثمارات، مدفوعاً بالتوسع في مراكز البيانات وتطوير البنية التحتية الرقمية. أما قطاعات النقل والتخزين والتعدين والتجارة والتصنيع، فقد تراوحت حصصها بين 7 و9%، ما يعكس توزّعاً أكثر توازناً مقارنة بالعقد الماضي.
ورغم استمرار أهمية القطاع العقاري، الذي لا يزال يشكل نحو 19% من الاستثمار الأجنبي، إلا أنه فقد موقع الهيمنة الذي كان يحتله لسنوات طويلة، نتيجة تشبع الأسواق من جهة، وتحوّل المستثمرين نحو قطاعات أسرع نمواً وأكثر قابلية للتوسع إقليمياً من جهة أخرى.
وتبرز المناطق التنموية كمحرك رئيسي لهذا التحول؛ فالعقبة، على سبيل المثال، أصبحت مركزاً لجذب الاستثمارات في الخدمات اللوجستية والمدن الذكية والتقنيات الحديثة، فضلاً عن السياحة. وفي عمّان، تحولت حديقة الملك حسين للأعمال إلى مركز إقليمي للشركات التكنولوجية ومراكز البيانات، مع توسع في الحاضنات الريادية بدعم برامج دولية مثل GIZ، التي ساعدت في نقل الشركات الناشئة نحو أسواق التصدير وتعزيز منظومة الابتكار داخل المملكة.
وفي هذا السياق، يؤكد فادي قطيشات، رئيس هيئة المديرين في جمعية شركات تقنية المعلومات والاتصالات (إنتاج)، لـ«إرم بزنس» أن الارتفاع الملحوظ في تدفقات الاستثمار يعكس «تنامي ثقة المستثمرين بالبيئة الاستثمارية الأردنية»، مشيراً إلى أن هذه الأرقام «تؤكد أثر الإصلاحات الاقتصادية المستمرة». ويوضح أن خريطة الاستثمار لم تعد تتمحور حول العقار كما كان سابقاً، بل توسعت لتشمل خدمات مالية واحترافية وقطاعات معرفية وتكنولوجية «ذات قيمة مضافة عالية تؤثر مباشرة في نمو الاقتصاد الوطني».
ويشير قطيشات إلى أن المستثمرين يتمتعون اليوم بمجموعة حوافز جوهرية، أبرزها ضريبة دخل 0% على الصادرات، وتخفيض الضريبة على قطاع خدمات تكنولوجيا المعلومات إلى 5% بدلاً من 20%، وهي عوامل ترفع تنافسية المملكة.
ويرى أن الأردن يمتلك بنية تحتية رقمية متقدمة وكفاءات بشرية مؤهلة واستقراراً تشريعياً يضعه في موقع يسمح له بأن يكون مركزاً إقليمياً للخدمات الرقمية.
إصلاحات وتشريعات تدعم بيئة استثمار أكثر تنافسية
من جانبه، يوضح أستاذ المالية في جامعة آل البيت عمر الغرايية أن التحول في طبيعة الاستثمار الأجنبي خلال العقدين الأخيرين كان «جوهرياً»، مع تراجع هيمنة القطاعات التقليدية لصالح قطاعات تعتمد على المعرفة والتكنولوجيا والخدمات. ويرى الغرايية أن هذا التغيّر لم يكن نتيجة عوامل ظرفية، بل نتاج تفاعل بين ضغوط اقتصادية عالمية وإصلاحات داخلية هدفت إلى رفع جاذبية الأردن للمستثمر الدولي.
ويشير إلى أن تدفقات النصف الأول من 2025 التي بلغت 1.05 مليار دولار—ما يعادل 4% من الناتج المحلي الإجمالي—تُظهر تحسناً واضحاً في بيئة الأعمال نتيجة تسهيلات قانونية وإجرائية عززت التنافسية وثقة المستثمرين. ورغم استمرار حضور العقار بنسبة 19.1% في 2024، فإن دوره أصبح أقل مما كان عليه قبل عقد.
وتصدّر قطاع التكنولوجيا والاتصالات المشهد الاستثماري، إذ ارتفع حجم الاستثمار فيه إلى 341 مليون دينار في 2022، وهو أعلى مستوى في ثماني سنوات، بدعم من استثمارات في شبكات 5G والألياف الضوئية، إلى جانب توسع الشركات الناشئة وارتفاع الطلب على حلول الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والحوسبة السحابية.
كما شهد قطاع الخدمات توسعًا في المجالات المالية والتأمين والرعاية الصحية والتعهيد، فيما تشير المؤشرات إلى مجال واسع للنمو في الخدمات الرقمية، التي شكّلت 10% فقط من الاستثمار بين 2003 و2020.